التكيّف الإبداعي بعد الحرب وصعود الجماهيرية: اليمن وحزب الله وغزة تعيد صياغة الوعي والميدان في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى
الحقيقة ـ جميل الحاج
في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى وما تلاها من حرب إبادة مدمّرة على غزة، شهدت المنطقة تحوّلاً استراتيجياً في سلوك حركات المقاومة، التي واجهت واحدة من أعنف موجات التدمير في التاريخ الحديث.
لم يكن هذا التحول مجرد ردّ فعل دفاعي أو استجابة ظرفية بل من منطلق ديني واخلاقي، ومثّل ما يمكن وصفه بـ “التكيّف الإبداعي”؛ أي القدرة على إعادة إنتاج الذات، فكرياً وتنظيمياً وميدانياً، ضمن بيئة شديدة القسوة والتعقيد.
من لبنان إلى اليمن، ومن غزة إلى عاصم العواصم صنعاء التي احتضنت نبض الجماهير بمسيرات مليونية أسبوعية، كما برزت مقاومات في المنطقة في غزة ولحزب الله في لبنان ككيانات مرنة، قادرة على تحويل الضربات إلى فرص، والهزائم التكتيكية إلى مكاسب استراتيجية، مما أعاد رسم المشهد السياسي والاجتماعي في المنطقة.
في قطاع غزة، واجهت المقاومة حرباً غير متكافئة على كل المستويات، ومع ذلك، استطاعت أن تعيد بناء بنيتها التنظيمية بسرعة لافتة رغم القصف المستمر وانقطاع الاتصالات وتدمير البنية التحتية.
اعتمدت على نظام قيادة لامركزي يمنح الميدان مرونة عالية في اتخاذ القرار التكتيكي، ويقلل من آثار فقدان القادة أو المقرات، هذا النمط من التنظيم جعلها قادرة على الاستمرار في العمليات النوعية خلال عامين من العدوان الإسرائيلي، لتُظهر أن قدرتها على المبادرة لم تتآكل، بل ازدادت نضجاً وصلابة.
إلى جانب الميدان العسكري، حافظت المقاومة على حضور إعلامي متماسك، أعاد تعريف الخطاب السياسي والإنساني للقضية الفلسطينية، وجعل من الرواية الفلسطينية سلاحاً موازياً للصواريخ في معركة الوعي.
في لبنان، مثّل حزب الله نموذجاً متقدماً للتكيّف الإبداعي على المستويين العسكري والاجتماعي.
فبعد حرب عام 2024، وما رافقها من ضغط استخباري واستهداف ممنهج للبنى العسكرية، تمكن الحزب من إعادة بناء منظومته الميدانية بسرعة، مستفيداً من بنية أمنية مرنة وشبكة اتصالات بديلة أثبتت فعاليتها رغم كثافة الضربات الإسرائيلية.
لكن البعد الأهم كان جماهيرياً، فقد شكل التشييع المليوني للشهيد السيد حسن نصر الله لحظة مفصلية في التاريخ اللبناني والعربي، إذ تحوّل الحدث إلى استفتاء شعبي على شرعية المقاومة ودورها الفعال، وأكد عمق العلاقة بين قيادة حزب الله وبين والقاعدة الشعبية.
لقد فشل العدوّ الإسرائيلي في رهانه على تفكيك البيئة الحاضنة للحزب، لتثبت المقاومة مجدداً أن قوتها ليست فقط في الصواريخ، بل في النسيج الاجتماعي الذي يحميها.
أما في اليمن، فقد تبلور نموذج فريد من التكيّف الإبداعي جمع بين الفعل العسكري والموقف الأخلاقي.
رغم الحصار الخانق والحرب الطويلة، تمكن اليمنيين من جعل دعمها لغزة محوراً مركزياً في سياستها الإقليمية، عبر فرض حصار بحري على السفن المتجهة إلى الكيان الإسرائيلي في البحر الأحمر، ما أدى إلى شلّ حركة ميناء إيلات وصولا إلى إيقافه وتعطيل جزء كبير من التجارة الإسرائيلية، وتكبيد العدو خسار اقتصادية كبيرة.
لم يكن هذا الدعم عسكرياً فقط، بل امتد إلى تعبئة جماهيرية هائلة، حيث خرج الملايين في صنعاء وصعدة والحديدة وتعز وباقي المحافظات الحرة في مسيرات أسبوعية متواصلة منذ عملية السابع من أكتوبر 2023م، دعماً لغزة ورفضاً للعدوان.
وقدّر المراقبون أن اليمن هو البلد العربي الوحيد الذي حافظ على زخم تعبوي أسبوعي بهذا الحجم لأكثر من مائة أسبوع متتالية، رغم شحّ الموارد وانعدام الحوافز المادية، ما يجعل تجربته استثنائية في التاريخ العربي المعاصر.
رغم فرادة التجربة اليمنية واتساع أثرها الإقليمي، فإن الإعلام الغربي والعربي السائد تعامل معها بسياسة تعتيم واضحة.
ففي حين تُعد تظاهرة من عشرة آلاف شخص في أوروبا “حدثاً جللاً”، يُتجاهل خروج مسيرات مليونيه أسبوعياً في اليمن، وكأنهم يتحركون في فراغ رمزي، ولكن الإعلام اليمني ومعه عدد من وسائل إعلام المقاومة تمكنت بالمستطاع مواكبة هذه المسيرات الأسبوعية .
هذا التجاهل ليس عرضياً، بل هو امتداد لسياسة تضليل إعلامي ممنهجة، تسعى لتجريد الفعل الشعبي المقاوم من بعده السياسي والإنساني، لكن هذا التعتيم لم ينجح في طمس الحقيقة، إذ باتت صور المسيرات اليمنية ومشاهد العمليات في البحر الأحمر تنتشر على نطاق واسع عبر المنصات المستقلة وشبكات التواصل الاجتماعي، التي تحولت إلى بديل عن الإعلام الرسمي المقيّد.
من رحم الحرب والحصار، برز اليمن كحالة سياسية نادرة، إذ استطاع أن يؤسس لهوية مقاومة علنية تُعبّر عن قناعة شعبية لا مجرد قرار رسمي.
فهو اليوم البلد الوحيد الذي تبنّى خيار المقاومة كمشروع سياسي شامل، يوظّف الفعل الميداني لخدمة موقف مبدئي تجاه فلسطين.
هذا التحول جعل من اليمن ما يمكن تسميته بـ “دولة الموقف”، رغم غياب مؤسسات الدولة التقليدية، إنها دولة تتأسس على الشرعية الشعبية لا البيروقراطية، وتمنح للشارع دوراً مركزياً في صياغة القرار الوطني.
تجربة اليمن تكشف إمكانات كامنة في الشارع العربي حين يُرفع عنه القمع الأمني والتوجيه الإعلامي.
لقد أثبتت أن الجماهير ليست خاملة بطبيعتها، بل مُعطلة عمداً، ففي الوقت الذي تمتلك فيه دول عربية مستقرة إمكانات إعلامية ومادية ضخمة، إلا أن مجتمعاتها تحولت إلى كيانات استهلاكية فاقدة للفاعلية الدينية والسياسية، بينما بلد محاصر مثل اليمن يصنع من الفقر موقفاً ومن العزلة فعلاً تاريخياً.
إن ما يجمع تجارب غزة ولبنان واليمن هو أن المقاومة تحولت من فعل عسكري إلى منظومة فكرية وثقافية، أن التكيّف الإبداعي هنا لا يعني فقط تطوير أدوات الحرب، بل القدرة على تحويل الألم إلى طاقة، والدمار إلى فرصة لتجديد المشروع.
ففي الوقت الذي كان يُفترض أن تخرج هذه الحركات من الحرب منهكة، خرجت أكثر رسوخاً في وعي شعوبها، وأكثر حضوراً في وجدان العالم الحرّ.
كما برز التوثيق الشعبي والإعلام المقاوم كأحد أهم أدوات هذا التكيّف، حيث تحولت الكاميرا والهاتف المحمول إلى سلاح موازٍ للبندقية، يوثق الجرائم ويعيد تشكيل السردية العالمية حول فلسطين والمقاومة.
ما بعد طوفان الأقصى ليس كما قبله.. لقد أعادت حركات المقاومة العربية تعريف معنى الصمود، وأثبتت أن الفعل المقاوم لا ينكسر بالحروب، بل يتطور عبرها.
هذا التكيّف الإبداعي جعل من المقاومة مدرسة في التنظيم والتعبئة والاتصال، وأعاد للسياسة معناها الأخلاقي بعد أن أفرغتها الأنظمة من مضمونها.
وفي زمن تتراجع فيه القيم وتُشترى المواقف بالتحالفات، تبرز غزة ولبنان واليمن كخرائط جديدة للعزّة، تُثبت أن الشعوب قادرة على إنتاج التاريخ حين تمتلك الإرادة، وأن الجماهيرية ليست شعاراً عاطفياً، بل قوة سياسية متجددة تصنع موازين القوى من جديد.




