من النور إلى الفعل: كيف يرسم القرآن معالم النهوض للأمة ومسارات المواجهة لأعدائها؟

ـ الأمة ومقومات النهوض: قراءة في عوامل القوة الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية

ـ القرآن.. مشروع هداية يصنع الأمة ويكشف طريقها وعدوّها

ـ المعرفة القرآنية: رصيد القوة وركيزة المواجهة الشاملة

الحقيقة ـ جميل الحاج

لم تكن مكانة الأمة الإسلامية عبر تاريخها محصورة في بعدها الديني فحسب، بل تعدت ذلك إلى أبعاد أخرى جعلت منها قوة مؤثرة في مجريات التاريخ وفاعلاً أساسيًا في صناعة الحضارة.

فقد منح الله هذه الأمة من المؤهلات والمقومات ما يتناسب والمسؤولية الكبرى التي حملتها، لتكون بالفعل «خير أُمَّةٍ أخرجت لِلنَّاسِ» وعبر التاريخ، كلما التزمت الأمة بهذه المقومات، برزت كنموذج يحتذى وقدمت للبشرية منظومة من القيم والعدل والرحمة والإصلاح. أما حين تراجعت عن ذلك، تراجع دورها وتأثيرها.

اليوم، وفي ظل التحديات السياسية والفكرية والاقتصادية التي تعيشها المنطقة، يعود الحديث بقوة عن ضرورة استعادة تلك المقومات، باعتبارها الركيزة الأساسية للنهضة في مواجهة المشاريع المعادية التي تسعى لإضعاف هذه الأمة وتفريغها من قدرتها على الفعل والتأثير.

أولًا: المقومات الدينية… الرسالة أساس النهضة

يشكل البعد الديني الركيزة الأولى في منظومة القوة التي تمتلكها الأمة، فقد مثّلت نعمة الرسول عليه وعلى آلة الصلاة والسلام والرسالة أعظم نعمة خصّ الله بها هذه الأمة، حين اختارها حاملة لرسالته الخاتمة، وجعلها مؤهلة لتجسيد قيم الدين وتبليغها للعالمين.

وقد شهد التاريخ الإسلامي المبكر نموذجًا فريدًا في عصر النبي محمد صلى الله عليه وآلة وسلم حيث تجلّى أثر الالتزام بالدين وتحويله إلى نموذج عملي في الأخلاق والإصلاح والعدل.

لقد استطاع الإسلام أن يصنع تحولًا جذريًا في المجتمع العربي، بدءًا من تليين قلوب الأعراب الذين عُرفوا بالغلظة والشدة، وصولًا إلى بناء مجتمع إنساني راقٍ انعكست قيمه في الصدق والوفاء والعطاء والإيثار، ولم يكن هذا التحول محصورًا في الجزيرة العربية، بل امتدت آثاره إلى مجتمعات أخرى دخلت في الإسلام طواعية بعد أن تأثرت بأخلاق المسلمين وتعاملهم، كما حدث في المغرب العربي على يد الأدارسة، وفي الجيل والديلم عبر جهود العلماء من أهل البيت، وكما حدث في جنوب شرق آسيا حيث نشر التجار المسلمون الإسلام بأخلاقهم قبل كلماتهم.

وقد ركّز الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين مؤسس المسيرة القرآنية (رضوان الله عليه) في محاضراته على أن استعادة الأمة لمكانتها تبدأ من استعادة علاقتها بالقرآن، باعتباره المصدر الأهم لفهم سيرة النبي ونهجه في المواجهة والصبر والثبات.

وأكّد أن كل الأنبياء كانوا يتحركون في مواجهة واقع منحرف وكافر، وأن رسالتهم لم تكن يومًا التعايش مع الفساد، بل تغييره، ومن هنا، فإن الأمة التي تريد النهضة لا يمكن أن تتقدم في ظل التخاذل أو الانقسام، كما أشار إلى درس غزوة أحد وما آل إليه من نتائج حين خالف بعض المسلمين توجيهات النبي محمد صلى الله عليه وآلة وسلم.

ثانيًا: المقومات الثقافية… الثقافة القرآنية التي صنعت الأمة

يمثل البعد الثقافي أساسًا محوريًا في بنية الأمة، وقد كان للثقافة القرآنية دور كبير في بناء العقل الجمعي العربي والإسلامي، فقد دخل القرآن إلى مجتمع يعاني من فراغ ثقافي وفكري واضح، الأمر الذي مهد لترسيخ هذه الثقافة دون صدام مع ثقافات سابقة.

الثقافة القرآنية تشكل الثقافة الجامعة التي تستطيع توحيد الأمة، لأنها تتسم بالشمولية والوضوح، وتقدّم منظومة قيمية وأخلاقية قادرة على معالجة مشكلات الإنسان والمجتمع.

ومن هنا، كانت العودة إلى هذه الثقافة ضرورة ملحّة لتحصين الأمة من الثقافات الدخيلة التي تشرعن التبعية وتُضعف روح الرفض والمقاومة، وهو ما حذر منه الشهيد القائد في عدة ملازم، مشيرًا إلى أن الانتصار في مواجهة التحديات الكبرى يرتبط بالالتزام بالهدى القرآني وبالقيادة الواعية المتصلة بثقافة القرآن.

وتطرّق الشهيد القائد إلى أن القرآن لا يقدم رؤية روحية مجردة، بل يقدم منظومة متكاملة ترفع المعنويات، وتبني الوعي، وتكشف حقيقة الأعداء، وتحث على المواجهة والبذل، وتزرع اليقين بأن الله إلى جانب المستضعفين ما داموا في طريق الحق.

في حين شدد السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي في أحد خطاباته على أن الأمة تمتلك مقومات ثقافية ومعنوية هائلة، لكنها لا تستفيد منها بسبب “العمى العام” الذي أصاب وعيها، وأن صمود الشعب الفلسطيني في غزة مثال حي على قدرة الأمة حين تتحرك بإيمان وبصيرة.

ثالثًا: المقومات الاقتصادية والاستراتيجية… الجغرافيا التي تصنع القوة

يعطي الامتداد الجغرافي العربي للأمة ميزات استراتيجية نادرة، فمن تحكمه في أهم الممرات البحرية، إلى ثرواته الطبيعية الضخمة، تمثل المنطقة العربية موقعًا مركزيًا في معادلات الاقتصاد العالمي، وهي مقومات تجعلها قادرة على التأثير في السياسات الدولية لو توفرت الإرادة الموحدة والرؤية الاستراتيجية شعوب هذه الأمة والأنظمة الحاكمة.

أن امتلاك هذه القدرات يعني أن الأمة ليست مجرد كيان ثقافي أو ديني، بل كيان قادر على فرض حضوره السياسي والاستراتيجي، واستعادة مكانتها العالمية، لكن ذلك يتطلب إدارة واعية لهذه القدرات، في ظل صراع عالمي تتسابق فيه القوى الكبرى للسطو على الموارد ونهب خيرات الشعوب.

وأكد السيد القائد في أحد خطابته: لو توكلت الأمة على الله واهتدت بهداه والتجأت إليه وتحركت بكل ما في أيديها من أوراق ضغط ومقومات لكانت في وضع مختلف تماماً.

وقال السيد القائد في خطابه عن الذكرى السنوية للشهيد 1447هـ : أن الأمة إذا فَقدتِ الروحيةَ الجهادية، فقدت كل مقومات وعناصر البناء، التي تبنيها كأمة قوية، حاضرة في هذه الساحة العالمية، لتكون في موقف مستقل ومتميز، على حسب انتمائها لإسلامها.

رابعًا: المقومات الاجتماعية… نسيج واحد وروابط لا تنفصم

اجتماعيًا، تملك الأمة العربية والإسلامية من الروابط والأواصر ما يجعلها واحدة من أكثر الشعوب قابلية للتماسك، فالوحدة الدينية واللغوية والثقافية، إضافة إلى الامتداد القبلي ووحدة العادات والتقاليد، كلها عوامل تساعد على إعادة بناء اللحمة الداخلية إذا تحركت الشعوب وفق رؤية مشتركة.

ويؤكد الشهيد القائد في أحد محاضراته، إلى أن الأمة لن تستطيع مواجهة أعدائها إلا بالعودة إلى القرآن، الذي دعا إلى الوحدة والاعتصام بحبل الله، محذرًا من الشعارات التي تؤدي إلى التمزق تحت عناوين “حرية الرأي” حين تُستخدم لتفكيك المجتمع بدل بنائه.

أما السيد القائد عبدالملك الحوثي فقد أكد في إحدى خطاباته أن صمود المجاهدين في مختلف الجبهات، سواء في فلسطين أو لبنان أو اليمن، يرجع إلى الوعي والارتباط بالله، وأن هذا الترابط هو ما يمنع انهيار الصفّ رغم التضحيات.

نماذج معاصرة لثمرة التمسك بالمبادئ: اليمن، فلسطين، لبنان، العراق، وإيران

ومما أوضحه السيد القائد في احد خطاباته بأن حجم الصمود الفلسطيني في قطاع غزة من العوامل المساعدة المشجعة لتنهض الأمة بمسؤوليتها، وأن الصمود الفلسطيني بهذا المستوى من الاستبسال والثبات والتضحية هو حجة على هذه الأمة، مشيرا إلى أن العدو الإسرائيلي عجز من حسم ما يريد حسمه في قطاع غزة ومن تحقيق أهدافه.

هنا ليس الكلام عن الجهاد والصمود مجرد نظريات، بل تشهد الساحة اليوم نماذج حيّة قدمت للعالم دروسًا في الثبات.. ففي اليمن، استطاع الشعب اليمني على الرغم من الحصار والحرب أن يصمد عشر سنوات، وأن يحدث تحولات مهمة في المعادلات الإقليمية بالوصول إلى صناعات عسكرية تفوق الكثر من دول العالم، وقد اظهرت قوتها وما توصلت من تطوير خلال مشاركتها في معركة أسناد غزة.. وفي فلسطين، شكّل صمود أهالي ومجاهدي المقاومة في غزة في مواجهة الغطرسة الصهيونية على مدي عامين، ظاهرة تاريخية فريدة أربكت حسابات العدو الإسرائيلي وحلفائه.

وفي لبنان، برز حزب الله كنموذج للمقاومة المنظمة التي فرضت معادلات ردع واضحة في أسناد غزة، وصموده أمام مساعي العدو الإسرائيلي لاحتلال لبنان.. وفي العراق، أدّى الحشد الشعبي دورًا محوريًا في مواجهة الجماعات المتطرّفة واستعادة السيادة والمساندة لغزة. بينما دعمت إيران قضايا المقاومة في المنطقة لعقود رغم الحصار والمؤامرات.

هذه الأمثلة أكدت أن الإرادة حين تقترن بالوعي والثقافة الإيمانية تستطيع أن تصنع معجزات، وأن النصر ليس مرتبطًا بحجم القوة المادية فقط، بل بمنظومة القيم والمبادئ الدينية، وأن هذه عوامل مساعدة ومشجعة لتقوم  الأمة بمسؤوليتها.

 رؤية متكاملة للنهوض بالأمة.. اليمن نمؤذج

قدّم الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين مؤسس المسيرة القرآنية (رضوان الله عليه).. مشروعًا قرآنيًا ركز فيه على ضرورة إعادة القرآن إلى موقعه الطبيعي كدليل للحياة والنهضة، مؤكدًا أن القرآن ليس كتابًا للتلاوة فقط، بل كتاب حركة، يربط الإنسان بربه، ويمنحه اليقين، ويحدد له مسار المواجهة. واعتبر أن أي مشروع نهضوي لا يستند إلى القرآن يبقى قاصرًا، لأن القرآن يقدّم رؤية شاملة لكل جوانب الحياة: من الأخلاق والسياسة إلى الاقتصاد والاجتماع.

وشدد على أن الأمة تملك كل المقومات للنهوض، لكن المشكلة كانت دائمًا في غياب التحرك، وفي ترك القرآن خلفها، وفي السماح للثقافات الدخيلة بأن تتقدم على حساب ثقافتها الأصيلة.

ومن هنا وفي ظل تواطؤ أنظمة التطبيع والخضوع أمام الهيمنة الأمريكية الصهيونية، برز اليمن بمشهد تاريخي وموقف استثنائي تجاه قضية الأمة فلسطين، جسد قوة المشروع القرآني الذي تبناه الشعب اليمني وقيادته الحكيمة الواعية.

لم يكن دعم اليمن لغزة مجرد موقف عابر أو دعاية سياسية، بل كان تجسيدا عمليا للمبادئ والقيم التي يؤمن بها، وانعكاسا طبيعيا لعقيدة إيمانية راسخة ترى في المقاومة فريضة وفي مناصرة المظلومين واجبا لا يقبل المساومة.

أنعم الله على اليمن بقيادة واعية وشجاعة، تتخذ من القرآن منهاجا ومن القيم الإسلامية نهجا ثابتا لا يتغير، قيادة صلبة، يقف على رأسها السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، الذي جسد من خلال مواقفه صورة القائد الحقيقي الذي لا يخشى في الله لومة لائم، ولا تثنيه التحديات عن درب العزة والكرامة.

فمنذ بدء العدوان على غزة، كان الصوت اليمني هو الأوضح، والموقف الأجرأ والأكثر تأثيرا، فبينما ارتمت بعض الأنظمة العربية في أحضان الكيان الصهيوني، كان اليمن يؤكد أن القضية الفلسطينية ليست مجرد شعار، بل قضية جوهرية في عقيدته، وهذا التميز لم يأت من فراغ، بل من نعمة المشروع القرآني الذي أرسى أسس العزة والكرامة والاستقلال في مواجهة المشاريع الغربية والصهيونية.

ومنذ انطلاق المعركة في غزة، لم يكتف اليمن بإطلاق التهديدات، بل ترجمها إلى أفعال هزت الكيان الصهيوني وأربكت حساباته العسكرية، بعمليات عسكرية كبرى، استهدفت مواقع حساسة في إيلات (أم الرشراش)، وضربت السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، وأدت هذه العمليات إلى تعطيل ميناء إيلات، وإرباك خطوط الشحن إلى الموانئ المحتلة، وكبدت العدو خسائر بمليارات الدولارات.

ولم تكن الضربات اليمنية موجهة للكيان الصهيوني فقط، بل امتدت لتشمل القوات الأمريكية في البحر الأحمر، رغم كل ما تمتلكه واشنطن من حاملات طائرات ومدمرات، إلا أنها وجدت نفسها عاجزة أمام الضربات اليمنية، مما اضطرها إلى تغيير مسارها وإعادة حساباتها العسكرية.

هروب حاملات الطائرات الأمريكية من البحر الأحمر، وانسحاب البوارج العسكرية من المنطقة، شكل فضيحة مدوية للإدارة الأمريكية، وأثبت أن القوة العسكرية لا تكمن في حجم الترسانة، بل في الإرادة والتوكل على الله.

ورغم الحصار الاقتصادي والمعاناة التي يعيشها الشعب اليمني بسبب تداعيات العدوان، إلا أن ذلك لم يمنعه من الوقوف في صف فلسطين بكل ما يملك، إذ خرج اليمنيون كل يوم جمعة من كل اسبوع خلال عامين في المسيرات المليونية الشعبية في العاصمة مختلف المحافظات، ليؤكدوا أن دعم غزة ليس خيارا سياسيا بل واجبا دينيا وأخلاقيا.

لم يكن اليمن مجرد داعم لغزة، بل كان رأس الحربة في معادلة جديدة جعلت العدو يعيد حساباته، فبينما يهرول البعض نحو التطبيع، كان اليمن يرسم معالم مستقبل جديد للأمة، تكون فيه الكلمة للأحرار والمقاومين وليس للخانعين والمطبعين، إنها قصة الصمود، قصة اليمن الذي أثبت أن الشرف لا يشترى، وأن العزة لا تمنح بل تنتزع.

ختاماً: تدل شواهد التاريخ وحقائق الواقع على أن الأمة الإسلامية تمتلك من المقومات ما يجعلها قادرة على استعادة دورها الحضاري، فالدين والثقافة والجغرافيا والمجتمع عناصر قوة لا تتوفر بهذا المستوى في أي أمة أخرى.

وأن ما تحتاجه الأمة اليوم ليس اكتشاف مقومات جديدة، بل إعادة إحياء ما لديها واستعادة ثقتها بنفسها وبقدرتها على الفعل، والعودة إلى مصدر قوتها الأول: القرآن الكريم ومبادئه التي صنعت خير أمة أخرجت للناس.

قد يعجبك ايضا