من صنعاء إلى غزة : سماء واحدة… مقاومة واحدة
رغم الحصار والغارات، يصرّ اليمنيون على أن غزة ليست وحدها، ففي تصعيد جديد، شنّت “إسرائيل” عدوانا جويا على العاصمة صنعاء، مستهدفة منشآت مدنية وحيوية في محاولة لوقف الدعم اليمني للمقاومة الفلسطينية، غير أن القصف، بدل أن يكسر الإرادة، كشف طبيعة الحرب الشاملة التي تربط غزة بالضفة وصنعاء في مسرح واحد من الدمار. الرسالة اليمنية جاءت واضحة: الإسناد لن يتوقف، والعدوان لن ينجح في عزل الجبهات أو كسر وحدتها.
من صنعاء المحاصرة إلى قرى الضفة المدمَّرة، وصولا إلى غزة المنكوبة، يتكشف وجه واحد لعدوان صهيوني متوحش، لا يعرف للإنسانية معنى ولا للقانون حرمة. فبينما يقصف الاحتلال العاصمة اليمنية ويستهدف منشآت مدنية، يواصل في الضفة الغربية سياسة الأرض المحروقة عبر الاقتحامات والاعتقالات والتجريف، وفي غزة يمضي المجرم نتنياهو بخطة إبادة واحتلال، متحديا كل الوساطات والاتفاقات، ومصرا على تحويل فلسطين والمنطقة إلى مسرح دائم للجريمة. إنها حرب شاملة، متصلة الحلقات، لا تنفصل فيها دماء غزة عن زيتون الضفة ولا عن رماد صنعاء، حربٌ عنوانها الإبادة، وهدفها خنق كل صوت يساند فلسطين.
في مشهد يهدف إلى كسر وحدة الميدان وتكامل الجبهات، صعّد الاحتلال الصهيوني عدوانه ليشمل أكثر من ساحة مقاومة، فأطلق طائراته وصواريخه باتجاه صنعاء، وزجّ بجنوده وآلياته داخل قرى الضفة الغربية، بينما يواصل في غزة سياسة الإبادة والتجويع، تحت قيادة حكومة يمينية متطرفة يتزعمها بنيامين نتنياهو. ثلاث جبهات مختلفة في الجغرافيا، لكنها متصلة في الهدف: خنق كل صوت يقاوم، وتدمير كل أرض تقف في وجه المشروع الصهيوني.
في اليمن، نفذ العدو الصهيوني هجمات جوية على العاصمة صنعاء، فاستهدف محطة الكهرباء المركزية في حزيز، ومحطة تابعة لشركة النفط في شارع الستين، ومبانٍ وسط العاصمة بينها مقر أمني. ولم تفرّق الغارات بين مدني وعسكري، وأدت إلى اندلاع حرائق واسعة عملت فرق الدفاع المدني على إخمادها. وسائل الإعلام الإسرائيلية تحدثت عن استهداف مواقع عسكرية قرب القصر الرئاسي، غير أن الوقائع على الأرض أظهرت العكس: القصف طال أعيانا مدنية بحتة، ما يؤكد الطبيعة الانتقامية والعشوائية للعدوان.
قيادات حركة “أنصار الله” ربطت الهجوم الصهيوني على صنعاء بشكل مباشر بالمعركة الدائرة في غزة، معتبرة أن استهداف اليمن ليس سوى جزء من حرب شاملة يشنها الكيان على المنطقة بأسرها. فقد أكد نائب رئيس الهيئة الإعلامية للحركة، نصر الدين عامر، أن الدفاعات الجوية اليمنية تمكنت من التصدي لجزء كبير من الغارات باستخدام منظومات محلية الصنع، وأجبرت تشكيلات قتالية صهيونية على الانسحاب. وشدد عامر على أن العمليات المساندة لغزة لن تتوقف إلا إذا توقف العدوان ورفع الحصار عنها، مبينا أن استهداف محطات وقود ومنشآت مدنية “لن يضعف من عزيمة اليمنيين، بل يكشف وحشية العدو وإفلاسه، وسيقود حتما إلى مزيد من التصعيد”.
وفي السياق نفسه، أوضح عضو المكتب السياسي للحركة، محمد الفرح، أن العدو الصهيوني يعمد، كما في غزة، إلى استهداف منشآت مدنية لا علاقة لها بالجانب العسكري، في محاولة للضغط على المدنيين. واعتبر أن الغارات تعكس مستوى الألم الذي سبّبته الصواريخ والمسيرات اليمنية داخل العمق الصهيوني، مؤكدا أن الضربات أصابت أهدافها بدقة وأربكت الاحتلال.
وأضاف أن العدوان على صنعاء “غير منفصل عما يجري في غزة ولبنان وسوريا منذ ما يقارب العامين”، مشيرا إلى أن “التجاهل الدولي لهذه الجرائم يؤسس لثقافة تمرد على القوانين الدولية التي تحترم السيادة وتؤكد حق الشعوب في الاستقلال”. أما القيادي محمد البخيتي، فذهب أبعد من ذلك حين شدد على أن “إسرائيل”، مهما توسعت في عدوانها، لن تستطيع ثني اليمن عن مواصلة إسناد غزة “مهما كانت التضحيات”.
ميدانيا، أعلنت شركة النفط اليمنية أنها اتخذت الإجراءات والاحتياطات اللازمة لمواجهة أي طارئ، مؤكدة أن الوضع التمويني في المناطق الحرة مستقر تماما، وداعية المواطنين إلى التعاون في حال مخالفة أي محطة للقوانين النافذة. من جهته، أوضح مصدر في الدفاع المدني أن الطواقم المختصة تعمل على إخماد الحرائق الناجمة عن العدوان في مناطق جنوب وغرب العاصمة صنعاء.
وبدا واضحا أن الرسالة اليمنية، التي حملتها المواقف السياسية والميدانية، واحدة: العدوان على صنعاء جزء من مخطط أوسع يستهدف شعوب المنطقة، لكنه لن ينجح في عزل جبهة عن أخرى أو وقف الدعم المتواصل لغزة.
في الضفة الغربية، جسّد الاحتلال الوجه الآخر من هذه السياسة. فبعد حصار استمر ثلاثة أيام، انسحب “الجيش” الصهيوني من بلدة المغير شرق رام الله، تاركا خلفه مشاهد خراب هائل. فيما اقتلع جنود الاحتلال مئات أشجار الزيتون، بعضها يعود إلى قرون، وجرّفوا أراضي زراعية واسعة، واقتحموا المنازل وعبثوا بمحتوياتها. الأهالي وصفوا المشهد بالانتقامي، وبدأوا فور الانسحاب في إعادة زراعة الأرض، متحدّين محاولات اقتلاعهم من جذورهم.
خلال الحصار، مارس الاحتلال ضغطا مباشرا على رئيس المجلس القروي أمين أبو عليا باعتقال نجله ومساومته على تسليم نفسه مقابل الإفراج عنه. وظهر أبو عليا في مقطع مصور قبل اعتقاله ليقول إنه يضحي بحريته في سبيل بلده، مؤكدا أنه خدم أهالي قريته دون تمييز. هذا المشهد جسّد إرادة الفلسطينيين في مواجهة آلة الاحتلال، التي لم تتردد في إصدار قرارات عسكرية بمصادرة نحو 297 دونما من أراضي المغير بذريعة “أمنية”، لفتح الطريق أمام توسع استيطاني جديد.
ولم تقتصر الانتهاكات على المغير. ففي فجر أمس الأحد، نفذت قوات الاحتلال اقتحامات في نابلس وجنين وطولكرم والخليل، اعتقلت خلالها تسعة فلسطينيين، بينهم طلاب جامعيون، بعد تخريب منازلهم. وفي الخليل، اعتدت القوات بوحشية على شاب بعد إنزاله من مركبته، ما استدعى نقله إلى المستشفى. هذه الاعتداءات تمثل امتدادا لمسلسل دموي منذ السابع من أكتوبر 2023، حيث قتلت قوات الاحتلال والمستوطنون أكثر من ألف فلسطيني في الضفة، وأصابوا سبعة آلاف آخرين، واعتقلوا ما يزيد على ثمانية عشر ألفا وخمسمئة شخص.
أما غزة، فقد استمرت فيها الإبادة بأشنع الصور. ورغم موافقة حركة “حماس” على مقترحات الوسطاء بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار، فإن نتنياهو صادق على خطة لاحتلال القطاع، مؤكدا تصميمه على إفشال أي تسوية. واعتبرت حماس في بيانها الأخير الخطوة دليلا على إصرار نتنياهو على المماطلة والعرقلة، مشيرة إلى أن اعترافات مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين تؤكد دوره المباشر في تعطيل أي اتفاق. الحركة شددت على أن وقف إطلاق النار يمثل الطريق الوحيد لإعادة الأسرى، وأن استمرار المراوغة الصهيونية يهدد مصيرهم ويطيل أمد المأساة.
في الوقت ذاته، يواصل الاحتلال سياسة التدمير الممنهج داخل القطاع، حيث دمّر المنظومة الصحية بشكل شبه كامل، ويهدد باجتياح مدينة غزة المكتظة بأكثر من 1.3 مليون إنسان. المكتب الإعلامي الحكومي في غزة حذّر من أن أي اجتياح جديد سيشكل جريمة حرب كبرى تضاف إلى سجل الإبادة الجماعية التي أسفرت حتى الآن عن استشهاد أكثر من 62 ألفا و622 فلسطينيا، معظمهم من النساء والأطفال، وإصابة 157 ألفا آخرين، بالإضافة إلى أكثر من تسعة آلاف مفقود ومئات آلاف النازحين. المجاعة التي فرضها الحصار أزهقت أرواح 281 شخصا بينهم 114 طفلا، لتكشف أن الاحتلال لا يكتفي بالقصف، بل يسعى إلى قتل الفلسطينيين بالجوع والمرض أيضا.
في ظل هذه الوقائع، يتضح أن المشهد ليس متفرقا، بل مترابط في كل تفاصيله. العدوان على صنعاء يعكس خشية “إسرائيل” من اتساع دائرة الدعم لغزة، والاعتداءات في الضفة تهدف إلى كسر إرادة الفلسطينيين وفرض وقائع استيطانية جديدة، بينما تمثل غزة مسرح الإبادة الأكبر الذي يفضح وحشية المشروع الصهيوني برمته. حكومة نتنياهو، التي تضم رموز الإرهاب مثل بن غفير وسموتريتش، لا تبحث عن تسويات أو حلول سياسية، بل تواصل تغذية أوهام “الانتصار المطلق” الذي ينهار أمام صمود الشعوب.
هذه الحرب المفتوحة تضع العالم أمام اختبار أخلاقي وقانوني حاسم. التغاضي عن قصف صنعاء، وعن اقتلاع زيتون المغير، وعن قتل أطفال غزة جوعا وقصفا، يعني المشاركة في صناعة الجريمة. والسكوت الدولي على هذه الأفعال لا يبررها القانون ولا الضمير، بل يشرعن جريمة مستمرة تهدد الأمن الإقليمي والدولي. الشعوب، من اليمن إلى فلسطين، تدرك أن معركتها واحدة، وأن الاحتلال الصهيوني لا يفهم سوى لغة القوة، وأن وحدة الميدان هي الطريق لردع عدوان لا يتوقف عند حدود بلد بعينه.