تركيا وقف التجارة مع “إسرائيل” ظاهرة صوتية.. والأرقام تفضح أنقرة
تركيا وقف التجارة مع “إسرائيل” ظاهرة صوتية.. والأرقام تفضح أنقرة
تركيا و”إسرائيل”.. شراكة في الظل وخطاب علني مناوئ
أردوغان.. بطل شعبوي في الخطاب وحليف اقتصادي في الواقع
تقرير ـ جميل الحاج
تعود العلاقات التركية مع العدو الإسرائيلي إلى البدايات الأولى لقيام الكيان الصهيوني عام 1948، إذ كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف رسمياً بـ”إسرائيل” في مارس 1949.
هذا الاعتراف المبكر فتح الباب أمام تعاون متنامٍ، لم يقتصر على الجانب الدبلوماسي فحسب، بل سرعان ما امتد إلى شراكات اقتصادية وعسكرية متشعّبة.
ومنذ ذلك الحين، ظلّت العلاقات الثنائية تسير بوتيرة متصاعدة، حتى باتت تركيا واحدة من أهم الشركاء الاستراتيجيين للكيان في المنطقة.
ورغم اختلاف الحكومات وتغيّر المشهد السياسي في أنقرة، فإن الخطوط العريضة لهذه العلاقة لم تُمسّ، بل تعمّقت على أكثر من صعيد.
حزب العدالة والتنمية.. خطاب شعبوي وواقع مغاير
مع وصول حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان إلى الحكم عام 2002، بدت العلاقات وكأنها تدخل مرحلة جديدة، حيث تبنّى أردوغان خطاباً معادياً للاحتلال، كثيراً ما استثمر فيه التعاطف الشعبي التركي مع فلسطين.
خطابات نارية ووقفات إعلامية، آخرها التنديد بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس عام 2018، منحت أردوغان رصيداً سياسياً وشعبياً واسعاً في الداخل والخارج.
لكن، على الضفة الأخرى، فإن لغة الأرقام تروي قصة مختلفة، حجم التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب ظلّ في تصاعد مطّرد، إذ بلغ في بعض السنوات أكثر من 9 مليارات دولار، ما يكشف التناقض الحاد بين الخطاب العاطفي لأردوغان وبين السياسات الاقتصادية الفعلية.
الغاز والطاقة.. شريان لا ينقطع بين أنقرة وتل أبيب
لا يختلف اثنان على أن الغاز الطبيعي وطرق الطاقة في شرق المتوسط شكّلت عاملاً حاسماً في تعزيز العلاقات التركية الإسرائيلية.
ورغم الخلافات السياسية العلنية، فإن الشراكة في مجالي الغاز والنقل البحري ظلّت قائمة بقوة.
في ذروة العدوان على غزة، ووسط مشاهد القصف والدمار، سجّلت الصادرات التركية إلى الكيان أرقاماً قياسية.
وعلى سبيل المثال، ارتفعت صادرات الصلب التركية إلى “إسرائيل” في مارس 2024 بنسبة 8,962% مقارنة بالعام السابق، فيما قفزت صادرات السجاد بنسبة 15,848% في الفترة نفسها. هذه الأرقام الفلكية تكشف أن “وقف التبادل التجاري” الذي أعلنت عنه أنقرة، لم يكن أكثر من تصريح سياسي للاستهلاك الإعلامي.
شعب واعٍ يواجه سياسة مزدوجة
على الجانب الشعبي، لا يمكن إغفال المواقف الواضحة للأتراك، فمنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة، خرجت المظاهرات في إسطنبول وأنقرة ومدن أخرى، رافعة شعارات نصرة فلسطين ورفض الاحتلال.
الشعب التركي يمتلك وعياً سياسياً عميقاً، نتاج عقود طويلة من الانقلابات والتحولات السياسية.
لكن ما يثير التساؤل هو: كيف يمكن لشعب يهتف بحرية فلسطين في الشوارع، أن يقبل بوجود قنصلية إسرائيلية في قلب إسطنبول تعمل بحرية؟ وكيف يغض الطرف عن علاقات اقتصادية ضخمة توفر للاحتلال موارد يحتاجها في حربه على الفلسطينيين؟
تركيا شريك لوجستي في الخفاء
إلى جانب التجارة، تلعب تركيا دوراً لوجستياً حيوياً في خدمة “إسرائيل”.. فمن قاعدة إنجرليك التابعة لحلف الناتو، أقلعت طائرات تحمل إمدادات عسكرية متجهة إلى تل أبيب.. إلى ذألك تعمل قاعدة كوراجيك للرادار كعين متقدمة للولايات المتحدة و”إسرائيل” في المنطقة، ترصد أي تهديد محتمل ضد الكيان.
بذلك، تصبح تركيا شريكاً غير مباشر في المعركة، شريكاً “في الظل” يقدّم الخدمات اللوجستية الحيوية، حتى وإن ظلّ الخطاب الرسمي يشي بعكس ذلك.
أرقام التجارة تكشف المستور
الأرقام الرسمية توضح حجم التناقض، فقد بلغت صادرات الصلب إلى الكيان في مارس 2024م 13.9 مليون دولار، مقابل 153 ألف دولار فقط في مارس 2023، أي بزيادة نسبتها 8,962%.
وبلغ إجمالي صادرات الصلب في الربع الأول من العام 41.4 مليون دولار، مقابل 177 ألف دولار فقط في الفترة ذاتها من العام الماضي، بزيادة هائلة وصلت إلى 23,228%.
في حين ارتفعت صادرات السجاد من 13.6 ألف دولار في مارس 2023 إلى 2.18 مليون دولار في مارس 2024، بزيادة بلغت 15,848%.. وفي الربع الأول من 2024، قفزت صادرات السجاد إلى 5 ملايين دولار تقريباً، مقارنة بأرقام شبه رمزية في 2023.. أن هذه الأرقام وحدها تكفي لتفنيد الادعاء التركي بوقف التجارة مع الاحتلال.
الملاحة البحرية: شراكة لا تعرف التوقف
في مايو 2024، أعلن أردوغان وقف التبادل التجاري مع “إسرائيل”، لكن على أرض الواقع، استمرت حركة الملاحة البحرية بين الطرفين دون انقطاع، وكان من أبرز السفن النشطة:
DEBBIE: قامت بـ11 زيارة إلى ميناء حيفا.
BARBAROS: رست في موانئ الاحتلال 22 مرة قادمة من تركيا ومصر.
MEDKON LTF: 5 رحلات ذهاباً وإياباً بين الموانئ التركية والإسرائيلية.
MEDKON MERSIN: تعمل بين موانئ تركيا ومصر والاحتلال.
MEDKON CANAKKALE: 3 رحلات في يوليو وحده.
TRANS CARRIER: 6 زيارات في يونيو ويوليو.
LISA: سفينة ضخمة بحمولة 40 ألف طن، نفذت 7 رحلات بين تركيا و”إسرائيل”.
إلى جانب سفن أخرى مثل: SVS JUSTICE، RMS MEL، وARIEL.
هذا النشاط البحري يؤكد أن العلاقات الاقتصادية لم تتوقف، بل تتواصل بوتيرة نشطة، بعيداً عن صخب التصريحات السياسية.
التناقض بين الموقف الشعبي والسياسات الرسمية
بينما يقف الشعب التركي بحماسة إلى جانب القضية الفلسطينية، تواصل حكومته فتح القنوات الاقتصادية واللوجستية أمام الاحتلال الإسرائيلي.
هذا التناقض جعل كثيراً من المراقبين يرون أن أردوغان يستخدم القضية الفلسطينية كورقة ضغط إقليمية وداخلية، أكثر مما يتعامل معها كمبدأ راسخ.
البصمة الأمريكية موجودة في المعادلة، فلا يمكن فصل هذه العلاقة عن التأثير الأمريكي المباشر، فتركيا عضو محوري في حلف الناتو، والولايات المتحدة تستخدم القواعد العسكرية على الأراضي التركية لدعم “إسرائيل”. هذا الارتباط الاستراتيجي يقيّد إلى حد كبير قدرة أنقرة على اتخاذ موقف حقيقي مستقل من الكيان الصهيوني.
وفي الختام:
عند قراءة المشهد التركي الإسرائيلي بتمعّن، يظهر بوضوح أن ما يجري ليس سوى لعبة سياسية معقّدة.. خطاب شعبوي يلامس عاطفة الجماهير، يقابله واقع اقتصادي وتجاري ولوجستي يصب في مصلحة “إسرائيل”.
فبينما يهتف الشارع التركي “الحرية لفلسطين”، تعبر السفن المحملة بالحديد والسجاد موانئ إسطنبول في طريقها إلى حيفا، وبينما يندد أردوغان في خطاباته بالعدوان، تعمل قواعد الناتو على الأراضي التركية كأذرع داعمة للكيان.
إنها مفارقة تختصرها المعادلة التالية: صوت عالٍ ضد الكيان الصهيوني.. لكن تجارة مزدهرة معه.