بين تهديدات توم برّاك وعقدة ساكن السراي… من للبنان؟!

يُقتل اللبنانيون يومياً. يرتقون شهداء على يد العدو مرة، ويُستهدفون بشتى الأساليب مرات ومرات: إعلام مفتوح للضرب فيه، وتصريحات سياسية تدوس على دمائهم وتتمادى في نكء جراحهم. أما السلطة، فبدل أن تتحمل مسؤوليتها تقف كالمتفرج، وعندما تقرر أن تخاطبهم، تحمّلهم أنفسهم مسؤولية استهدافهم.

آخر فصول هذا المشهد كان في إطلالة رئيس الحكومة نواف سلام. “أي رسالة توجهها إلى جمهور المقاومة؟”

عن استهدافهم اليومي سيتحدث؟ أم عن التضييق في إعادة الإعمار؟ أو الأسرى لا يعرف ذووهم شيئاً عنهم… أعدادهم وأوضاعهم؟ أم سيخاطب الأيتام يفقدون الأم والأب، والعوائل تفقد جنى عمر بكامله؟ وأخرى ترمم بيتها مرة واثنتين وثلاث… تنهد “دولته” وعندما تحدث لم يجد غير هتافات “جمهور مشحون” – على حد وصفه- يسائلهم عليها. هذا ما اختار نواف سلام أن يوجهه لجمهور جراحه مفتوحة. ليتبين أن الرجل عالق هنا، وانطلاقاً من هذه العقدة تُبنى مواقفه.

وعلى وقع طنين المسيّرات الإسرائيلية التي لم تفارق مسامع كل من في السراي، كان سلام يقول للبنانيين ومعهم العالم بأن “لبنان لم يلتزم بالكامل باتفاق وقف إطلاق النار”. باسم حكومة لبنان كان يتحدث الرجل، مندفعاً في لوم اللبنانيين أكثر من غيرهم، الذين لم يُرَ منذ وقف المواجهات لمقاومتهم وجود مسلح، وصواريخهم التي سلموها للجيش في جنوب الليطاني، وثقتها العدسات التي اخذت التقطت صورة لمورغان اورتاغوس وهي تحمل إحداهم.

وأكثر من مرة حاول رئيس الحكومة القفز عن الرد على مواقف المبعوث الأميركي توم برّاك، التي حملت تهديداً علنياً للبنان. والحرج من الرد على اساءات الأميركيين يبدو وكأنه سياسة رسمية باتت معتمدة. يصف المسؤولون اللبنانيون الولايات المتحدة بالدولة الصديقة. والتوصيف ظل يُعتمد حتى عندما كانت أجساد اللبنانيين، عائلات وأفراداً، تتطاير بالقنابل الأميركية التي زُودت بها آلة القتل الإسرائيلية، في حرب لم تتوقف ضدهم، ولم تكن يوماً إسرائيلية صرف. هي أميركية بالقدر نفسه، تدار من قلب كابينت الحرب الأكبر في واشنطن، بإسناد عربي اعلامي ومالي.

من جبهة الإسناد، إلى استهداف القادة وخسائر المقاومة، ومن اتفاق وقف النار إلى إعادة الإعمار وسقوط حكم الرئيس الأسد في سوريا، إلى جدوى المقاومة ومصادر تمويلها، والتهويل بالحرب والحديث عن إلزامية التطبيع… كلّ هذه العناوين تُستخدم كمادة يومية لضرب المقاومة، خياراً ومجتمعاً متكاملاً عابراً للانتماءات المناطقية والطائفية. وفي الوقت الذي يكون فيه عنوان “إعادة الإعمار” فارضاً نفسه كحاجة ملحة للعائلات المهجرة والقرى المنكوبة، يُطرح تمويله بوصفه “تبييض أموال” تتطلب مكافحته، وهذا تحت مسمع حكومة تقول إنها تتعهد إعادة الإعمار! بهذا الشكل المكشوف تخاض المواجهة في الداخل اللبناني، بقرار أميركي بالدرجة الأولى.

الصداقة الأميركية مع لبنان… كيف ترجمتها مواقف مبعوثي واشنطن؟

بتاريخ 27 نوفمبر 2024 كان من المفترض أن يدخل اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ. التزم لبنان بكامل بنود الاتفاق، ولم يلتزم العدو الإسرائيلي بأيٍ منها. ورغم أن واشنطن هي الراعي الرسمي للاتفاق ورئيسة اللجنة الخماسية المشرفة على تنفيذه، فإن أي مساءلة للخروقات المعادية لم تتم. والاعتداءات مستمرة في استهداف المدنيين. عندما سُئل المبعوث الأميركي توم برّاك عن الموضوع أجاب أن بلاده “لم تقدّم ضمانات للبنان ولن تمارس أي ضغوط ضد (إسرائيل)  ”، داعياً لبنان إلى “خطوة ما تجاه حزب الله”. ليعود في آخر تصريحاته ينفض يد إدارة بلاده كلياً من الاتفاق، بذريعة أنه “تم في عهد إدارة جو بايدن”.

لاحقاً جاءت الورقة الأميركية. بَصَمت السلطة على بنودها بالعشرة، ثم سارعت الحكومة إلى إقرارها رغم ما أثارته من أزمة داخلية وضعت البلد على حافة الانفجار. وبعدما كان الأميركيون قد أعلنوا أن تنفيذ البنود سيتم وفق مبدأ “الخطوة مقابل الخطوة”، خطا لبنان أولى خطواته، وحين جاء دور “إسرائيل” كان الانقلاب الأميركي المعتاد، على لسان ليندسي غراهام: “لا تسألوا عن شيء قبل نزع سلاح عدو الشعب الإسرائيلي، فأيادي حزب الله ملطخة بدماء الشعب الإسرائيلي”.

توالت بعدها مواقف توم برّاك وأهم ما فيها أنها كانت بلا قفازات. مرة يصارحنا بأنه “في نظر (إسرائيل) ، الخطوط التي رسمتها سايكس بيكو لا معنى لها. سيذهبون حيثما يريدون، وقتما يريدون، ويفعلون ما يريدون لحماية أنفسهم”. وبعدها يرد على خطاب الرئيس اللبناني جوزاف عون، في القمة العربية في الدوحة، بأن لبنان جاهز للسلام متى أراد العدو ذلك.. فيرد برّاك: السلام وهم. و(إسرائيل)  لها مكانة خاصة عندنا. وأننا لن نسلح الجيش اللبناني ليواجه “(إسرائيل) “، بل على اللبنانيين وحدهم أن يخوضوا المواجهة وبلا اعتبارات.

ومن آخر اصدارات مواقف توم برّاك، كان منشوره المطوّل على منصة “اكس” مهدداً اللبنانيين بأن عليهم الذهاب لنزع سلاح المقاومة واطلاق مفاوضات مباشرة مع العدو، “وإلا”: ضربة اسرائيلية، فتأجيل الانتخابات يليهما فوضى داخلية مسلحة وانهيار اقتصادي. والتهديدات ينفخ فيها تهويل إعلامي لا يتوقف تحت عين ونظر وزارة اعلام، لا يعلم اللبنانيون أي دور فعلي تؤديه على صعيد ضبط الخطاب الإعلامي.

خلال مقابلته الأخيرة، قال رئيس الحكومة إن لبنان لم يلتزم باتفاق وقف اطلاق النار، وإنه لا وجود لبلد فيه جيشان وقراران. وعن التفاوض المباشر مع العدو، أكد أنه يتم بشكل غير مباشر عبر الخماسية… “حتى اشعار آخر”، هل كان الكلام شيئاً إلا مجاراة لمواقف توم برّاك.

كم مرة ينبغي أن نسأل، كي نحرك في كرامة أهل السلطة شيء: ماذا لو صدرت التصريحات المهينة عن مسؤول إيراني؟ كيف كانت “السيادة اللبنانية” ستثور دفاعاً عن نفسها؟

إن المؤتمنين على مصالح اللبنانيين، يتعاملون مع تبرير قتل المدنيين وتهديدات اقتلاعهم والتضييق عليهم، بمنطق السمع الطاعة لأرباب العربدة والهيمنة. فهل علينا بعدها أن نسأل لماذا يُمعن الأميركيون في إهانة كراماتنا، بالتلويح بضم البلد إلى سوريا أو بإغرائنا بإزدهار يقوم على اقتلاعنا وتهجيرنا؟

إن ثمة حقيقتين لا ثالث لهما:

– الأولى: أن الخنوع الرسمي المفضوح هو من يمنح الضوء الأخضر للأميركي، بالإمعان في الضرب بالكرامة اللبنانية والدوس على تضحيات اللبنانيين ودمائهم.

– الثانية: أن صمود الأهالي ووقوفهم بهامات مرفوعة تحت عين مسيّرات القتل اليومي دون أن يهتز لهم جفن، هو ما يستدعي هذه الإلتفاتة الأميركية والدولية إلى لبنان.

ودون ذلك، فإن البلد لن يكون بالنسبة للأميركيين وغيرهم أكثر من ولاية ملحقة بدمشق. عندها يا “دولة الرئيس” لن يكون هناك لبنان ليُحمَّل أكثر من طاقته!

موقع العهد

قد يعجبك ايضا