صحيفة الرسالة الفلسطينية :الشهيد اللواء الركن محمد الغماري… قائدٌ صاغ «معركة الإسناد لغزة» ودفع حياته ثمنًا
«ارتقى في أشرف المعارك»
الشهيد اللواء الركن محمد الغماري… قائدٌ صاغ «معركة الإسناد لغزة» ودفع حياته ثمنًا
لم يكن خبر استشهاد القائد الجهادي الكبير اللواء الركن محمد عبدالكريم الغماري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة اليمنية، مجرد رحيل رجل عسكري بارز، بل وداعًا لرمزٍ من رموز الإباء والمقاومة، الذي اختار أن يمضي على طريق القدس، مقاوماً حتى آخر رمق في سبيل الأمة وقضيتها المركزية – فلسطين.
ومنذ اللحظة الأولى لإعلان استشهاده، عمّت مشاعر الحزن والفخر أوساط اليمنيين والفلسطينيين وسائر أحرار الأمة، لما يمثّله الغماري من نموذجٍ نادرٍ لقائدٍ آمن بأن فلسطين ليست قضية حدودٍ أو سياسة، بل قضية عقيدةٍ وانتماءٍ وإنسانية.
مسيرة المجاهد الصلب
وُلد الشهيد محمد عبدالكريم الغماري في مديرية وشحة بمحافظة حجة شمال غرب اليمن، وترعرع في بيئةٍ ريفيةٍ متدينةٍ حملت قيم العزة والكرامة.
انخرط في صفوف المجاهدين منذ بدايات المواجهة مع قوى العدوان على اليمن، وشارك في معارك الدفاع عن بلاده بإخلاصٍ وتفانٍ، حتى برز قائداً حكيماً محنكاً يجمع بين العقل العسكري والانتماء الإيماني العميق.
وتدرّج الغماري في مواقع القيادة حتى تولّى رئاسة هيئة الأركان العامة عام 2016، فكان منذ ذلك الحين العقل العسكري الأبرز في إدارة المعارك، وصاحب رؤيةٍ استراتيجيةٍ رسّخت قواعد الردع، وأعادت للجيش اليمني توازنه بعد سنوات الحرب الطويلة.
اتصف بشخصيةٍ صلبةٍ متواضعةٍ، وكان قريباً من الجنود والمقاتلين، يشاركهم الميدان، ويواسي الجرحى، ويشرف بنفسه على الخطط والتدريبات، مؤمناً بأن القيادة الحقيقية تُصاغ بالقدوة لا بالأوامر.
مهندس “معركة الإسناد لغزة”
ومع اندلاع معركة “طوفان الأقصى” في تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم يتردد الغماري لحظة في إعلان أن اليمن لن يقف متفرجاً على المجازر في غزة، بل سيكون جزءاً من معركة الأمة الكبرى.
ومنذ ذلك الحين، قاد الغماري ما عُرف باسم “معركة الإسناد لغزة”، التي فتحت جبهة البحر الأحمر وباب المندب نصرةً لفلسطين، مؤكداً أن “من لا يقف اليوم مع غزة، فلن يجد غداً مكاناً مع الأحرار”.
وتحولت تصريحاته إلى منهجٍ عملٍ وطنيٍ وإقليمي، إذ أعاد صياغة مفهوم التضامن العسكري مع القضية الفلسطينية، لا كشعارٍ سياسي، بل كواقعٍ عملياتي تجسّد في ردع العدو ومنعه من الإحساس بالأمان في محيطه البحري والجوي.
وكان الغماري يرى في صمود غزة مرآةً لصمود صنعاء، وفي المقاومة الفلسطينية امتداداً طبيعياً للمشروع التحرري العربي والإسلامي. واعتبر أن «القدس هي قبلة البنادق»، وأن الطريق إليها يمرّ عبر كل جبهةٍ ترفض الهيمنة والاستكبار.
شهادةٌ على طريق الشرف
وفي إحدى الغارات العدوانية التي استهدفت مواقع يمنية خلال العام 2025، أصيب اللواء الغماري أثناء قيامه بواجبه الجهادي، مواصلاً توجيه العمليات ومتابعة المعارك رغم إصاباته البالغة.
وبعد أسابيعٍ من الصمود في وجه الموت، ارتقى شهيداً في 16 تشرين الأول/أكتوبر، مخلفاً إرثاً من الوفاء والبطولة، ومؤكداً بدمه أن القادة الحقيقيين لا يموتون على المقاعد، بل في ساحات العزّ والكرامة.
استشهاده لم يُضعف معنويات اليمنيين، بل زادهم إصراراً على المضيّ في خطّه، إذ نُظمت في صنعاء وسائر المحافظات اليمنية مسيراتٌ جماهيرية حاشدة رفعت صوره ورددت شعارات الوفاء لفلسطين وغزة. وتحوّل موكب تشييعه إلى استفتاءٍ شعبيّ على ثقة الأمة بجيشها وقادتها المقاومين.
تفاعل فلسطيني واسع
في فلسطين، لقي استشهاد الغماري صدىً مؤثراً في صفوف الفصائل المقاومة. فقد أصدرت كتائب القسام بيان نعيٍ وصفته فيه بأنه “القائد الجهادي الكبير الذي ارتقى في طريق القدس، ووهب روحه دفاعاً عن المستضعفين”، مؤكدةً أن دماء الغماري وأحرار اليمن “ستظل وقوداً لمعركة التحرير الكبرى”.
أما حركة الجهاد الإسلامي فاعتبرت أن الغماري “كان أحد أبرز وجوه الأمة الذين ربطوا مصيرهم بمصير فلسطين”، مؤكدة أن الشعب الفلسطيني “لن ينسى أن اليمن وقف معه في أحلك الساعات، وقدم قادته وأبناءه فداءً لغزة”.
كما أصدرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة الأحرار ولجان المقاومة بياناتٍ مماثلة، أشادت فيها بدوره في “توحيد الجبهات ضد العدو الصهيوني” وبتحويل اليمن إلى “سندٍ استراتيجي للمقاومة الفلسطينية”.
إرثٌ خالد لا يغيب
برحيله، فقدت الأمة واحداً من أنقاها وأصدق قادتها، غير أن أثره سيبقى حاضراً في وجدان المقاومين. فقد ترك وراءه مدرسةً في القيادة الميدانية والانضباط، ورسّخ مبدأ أن المقاومة لا تعرف حدوداً ولا جنسية.
لقد جسّد الغماري معنى “العالم المقاوم” الذي يجمع بين العلم العسكري والإيمان القوي، وكان يؤمن بأن تحرير فلسطين ليس حلماً بعيداً، بل مساراً تصنعه دماء الرجال وصدق الموقف.
إن سيرة هذا القائد الشهيد ستظل تروى للأجيال القادمة مثالاً على أن اليمنيّ – مهما كانت معاناته – لا ينسى القدس، وأن من يواجه الظلم في بلده، لا يتردد في مواجهة الظلم في أي مكانٍ على وجه الأرض.
وهكذا، يمضي اللواء الركن محمد عبدالكريم الغماري إلى عليائه، كما أراد دائمًا: شهيدًا لا يساوم، مرفوع الرأس، تاركًا وصيته الخالدة بأن “من أحبّ القدس، وجب عليه أن يقاتل من أجلها”.
المصدر: الرسالة نت