من زنازين الأسر إلى ميادين النصر.. كيف صنعت المقاومة الحرية وأعادت الأسرى؟

الحقيقة ـ جميل الحاج

كانت المشاهد التي غمرت شبكات التواصل في الساعات الأولى لإعلان صفقة “طوفان الأحرار” أشبه بفيضٍ من الدهشة والوجع معًا.

رجالٌ في الخمسين والستين خرجوا من بوابات الأسر بعد عقودٍ من الغياب، ليتلقفهم أبناءٌ وأحفادٌ لم يعرفوهم إلا من صورٍ باهتة كانت تزيّن الجدران.

أمهاتٌ يتلمسن الملامح بارتباكٍ مفعمٍ بالحنين، ثم ينفجرن بالبكاء حين تلتقط ذاكرتُهنّ نبرة صوتٍ أو رعشة عينٍ لا تخطئها الأمومة.

على وجوه المحررين بدت عقود الأسر متجمدة، أكثر من ثلاثين عامًا قضاها بعضهم خلف القضبان بينما دار الزمن في الخارج دورةً كاملة دونهم.. لم يكن المشهد مجرد عودة أفراد، بل عودة زمنٍ منسيّ، جيلٍ من المناضلين الذين كبروا في الزنازين بينما كبر أولادهم على قصصهم.

صفقة طوفان الأقصى.. الحرية تنتزع ولا تُمنح

تحرير 1968 أسيرًا فلسطينيًا من سجني “عوفر” و“كتسيعوت” لم يكن مجرد رقمٍ جديد في سجل الصراع، بل حدثٌ مفصليّ في تاريخ المقاومة الفلسطينية. جاءت الصفقة تتويجًا لمعركة “طوفان الأقصى” التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023، حيث فُرضت شروط المقاومة بقوة الميدان، لتثبت مجددًا أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع.

الصفقة شملت 250 أسيرًا من أصحاب المؤبدات و1718 أسيرًا من قطاع غزة اعتقلوا بعد اندلاع الحرب. وفي المقابل، أفرجت كتائب القسام عن 20 أسيرًا إسرائيليًا على دفعتين، وسلمتهم إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي نقلتهم للاحتلال، في مشهدٍ عكس التزام المقاومة الأخلاقي والإنساني رغم حجم الدمار والمعاناة.

غزة.. مدينة تولد من تحت الركام

مع دخول المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، تحوّلت غزة إلى ساحة احتفالٍ رغم الألم. في الشوارع المهدّمة علت الزغاريد، وتعانقت التكبيرات مع الأناشيد الوطنية. حمل الأطفال صور آبائهم، ووزّعت النساء الحلوى، بينما دوّى الهتاف: “الحرية للأسرى.. المقاومة انتصرت”.

وفي الميادين العامة، تزيّنت الجدران بعبارات النصر: “وعد المقاومة صدق”، “الحرية للأسرى جميعًا”. ورغم الدمار، بدا الناس أكثر تمسكًا بالحياة، وكأن غزة بأكملها تقول للعالم: “نُقصف فننهض، نُحاصر فنبدع، نُقاتل فننتصر”.

محطات التبادل عبر العقود

لم تكن صفقة “طوفان الأقصى” وليدة اللحظة، بل امتدادٌ لمسارٍ طويل من المواجهة والمقايضة بين المقاومة والاحتلال، فمنذ نكبة 1948، ظلّ ملف الأسرى أحد أعقد ملفات الصراع، ورمزًا للكرامة الفلسطينية.

خلال العقود الماضية، شهدت المنطقة سلسلة صفقات كبرى شكّلت معالم هذا المسار:

نوفمبر 1983: تبادل أكثر من 4500 أسير فلسطيني مقابل ستة جنود إسرائيليين لدى منظمة التحرير، في صفقة أنصار الشهيرة.

مايو 1985: “صفقة جبريل” التي أطلقت 1155 أسيرًا فلسطينيًا مقابل ثلاثة جنود إسرائيليين، واستغرقت مفاوضاتها عامًا كاملًا.

يونيو 2008: عملية “الوعد الصادق” حرر فيها سمير القنطار وأربعة مقاتلين مقابل جثتي جنديين إسرائيليين.

أكتوبر 2011: عملية “وفاء الأحرار”، حين حررت كتائب القسام 1027 أسيرًا مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.

ومع صفقة “طوفان الأقصى”، يصل عدد من تم تحريرهم عبر التبادل إلى أكثر من خمسة عشر ألف أسير منذ ثمانينيات القرن الماضي، ما يجعلها أحد أبرز ملامح المقاومة الفلسطينية ومؤشرًا دقيقًا على توازن الردع.

ميزان القوة.. حين تفرض المقاومة معادلتها

في كل مرة، تُجبر المقاومةُ الاحتلالَ على الجلوس إلى طاولة المفاوضات من موقع الندّ لا التابع. فـ (إسرائيل) كما أثبتت التجارب، لم تفرج يومًا عن أسيرٍ فلسطيني بإرادتها أو بدافعٍ إنساني، بل فقط تحت ضغط النار والميدان.

لذلك، فإن كل صفقة تبادل تمثل انتصارًا مزدوجًا: عسكريًا يكرّس قدرة المقاومة على فرض الشروط، وسياسيًا ينسف ادعاءات الاحتلال بأنه لا يتفاوض مع “الإرهاب”.

ومع “طوفان الأقصى”، تجاوزت الصفقة أبعادها الإنسانية لتتحول إلى صفعة سياسية وأخلاقية للاحتلال الإسرائيلي الذي حاول كسر إرادة غزة بالنار، فإذا به يرضخ لشروطها بعد حربٍ دمويةٍ استمرت 735 يومًا.

حرية تُعيد للكرامة معناها

في المشهد الفلسطيني، لم يكن استقبال الأسرى مجرد لحظة احتفال، بل استعادةً للكرامة الوطنية.. كل أسيرٍ محرر هو شهادة على صبر عائلةٍ وثبات مدينةٍ وإصرار شعبٍ.

فالمقاومة التي كتبت معادلة “الحرية مقابل الجندي” أكدت أن الكرامة لا تقبل المساومة، وأن سلاحها ليس فقط في الميدان بل في الوعي الجمعي الذي توارثته الأجيال.

لقد أدرك الاحتلال الإسرائيلي أن الشعب الذي يشيّع شهداءه بزغاريد النصر، ويحوّل أنقاض بيته إلى راية مقاومة، لا يمكن كسره. لذلك، لم تكن صفقة التبادل الأخيرة مجرد حدثٍ إنساني، بل إعلانًا رمزيًا عن انتصار الإرادة الفلسطينية التي خرجت من تحت الركام لتقول: “الحرية ليست حلماً بل قرار”.

من غزة إلى العالم.. وعيٌ يتجاوز الجغرافيا

تجاوزت مشاهد الفرح حدود القطاع المحاصر، لتصل إلى المخيمات في الشتات والعواصم العربية والغربية.. امتلأت مواقع التواصل بصور المحررين وعبارات الفخر، وتحوّلت الصفقة إلى لحظة وعيٍ جماعي تذكّر العالم بأن خيار المقاومة هو الطريق الأوضح نحو الكرامة والتحرر.

ولأول مرة منذ عقود، بدت صورة الفلسطيني في الإعلام العالمي مختلفة: مقاومٌ ينتزع حريته لا ضحية تستجديها. ومع كل أسيرٍ خرج إلى النور، اتسع المعنى، وتجدّدت الرسالة: أن الاحتلال مهما امتلك من ترسانةٍ وسجونٍ وأسوارٍ، يبقى عاجزًا أمام إرادة الحرية.

وعد المقاومة لا يسقط بالتقادم

بين دموع الأمهات وزغاريد الفرح، ولدت من رحم “طوفان الأقصى” معادلة جديدة تُكتب بمداد الشهداء: “نقاتل فننتصر.. نُؤسر فنحرر.. نُحاصر فنصنع الحياة”.

فمن أنصار إلى جبريل، ومن شاليط إلى طوفان الأقصى، أثبتت المقاومة الفلسطينية أن الحرية تُصنع بأظافر المجاهدين لا بتصريحات المفاوضين، وأن إرادة الشعوب لا تُكسر مهما طال ليل الاحتلال.

وهكذا، تكتب غزة من جديد فصلها الأجمل في ملحمة الحرية، مدينةً لا تموت، وأمًّا لا تنسى أبناءها خلف القضبان، ووطنًا كلما نزف، ازداد التصاقًا بالأرض وبالحلم الذي لا يُقهر: الحرية الكاملة لفلسطين، من البحر إلى النهر.

قد يعجبك ايضا