البيان الوزاري حول “حصر السلاح” بين الاحتواء الداخلي والتحديات الإقليمية

يشكل البيان الصادر عن مجلس الوزراء اللبناني؛ بشأن خطة الجيش لنزع سلاح حزب الله محطة بالغة الحساسية في المشهد الداخلي والإقليمي، إذ يتقاطع مع أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية داخلية من جهة، ومع رهانات “إسرائيلية” مستمرة على تجريد الحزب من سلاحه من جهة ثانية. لا يمكن النظر إلى هذا البيان بوصفه مجرد خطوة إجرائية أو تقنية، بل باعتباره مؤشراً على توازنات دقيقة تحكم الساحة اللبنانية في هذه المرحلة، ومحاولة لإيجاد مخرج ظرفي يجنّب البلاد انفجاراً داخلياً واسعاً.

من هنا، يصبح ضرورياً أن تُقرأ هذه الخطوة ضمن إطار تحليلي أوسع يأخذ بالاعتبار: طبيعة التقديرات وحدودها، الوظيفة السياسية والقانونية للخطة والبيان، الموقف المحتمل للقوى الإقليمية والدولية، وأخيراً موقعها في الإستراتيجية “الإسرائيلية” الراهنة.

طبيعة التقديرات وحدودها

من المهم التشديد بداية على أن ما نقدمه من تقديرات لا يزال أولياً، وقابلاً للتبدل تبعاً لمتغيرات سريعة على الصعيدين الداخلي والخارجي. فالمشهد اللبناني هشّ للغاية، وأي تقدير إيجابي أو سلبي يبقى مشروطاً بسياق التطورات المقبلة. إن أقصى ما تحقق حتى الآن هو تأجيل الانفجار الكامن، وليس نزعه أو معالجته جذرياً، إذ لا يزال “اللغم” مزروعاً في صلب التوازنات اللبنانية، فيما صاعق التفجير لا يزال متصلاً به، حتى وإن جرى تعطيله مرحلياً.

الخطة التي قدمها الجيش لمجلس الوزراء جاءت أشبه بآلية تفادي للأزمة، هدفها منع انهيار الحكومة وتجنب ارتداد ذلك في الشارع. ومن اللافت أن الخطة لم تُطرح بوصفها وصفة تنفيذية حاسمة، بل كمخرج مؤقت يشير إلى قيود وشروط ينبغي توافرها حتى تُنفذ، فضلاً عن أن البيان الوزاري لم يحدد سقفاً زمنياً، بل ربط التنفيذ بالتزامات “إسرائيل” الواردة في اتفاق 27 تشرين الثاني، مذكّراً بأن لبنان أنجز ما عليه، والمطلوب الآن الضغط على “إسرائيل” للالتزام.

هذه الصيغة أسهمت في احتواء التوتر الداخلي وخفض مستوى التجاذب السياسي، كما منعت انهيار الحكومة وتداعياته السلبية التي كانت ستطاول الوضع الاقتصادي المتصدّع أصلاً. ومن الزاوية الدولية، وفر البيان للبنان ورقة قوة، إذ قدّم نفسه كطرف ملتزم بالاتفاقات والقرارات الدولية، بما يتيح له المطالبة بضغط دولي على “إسرائيل” لوقف اعتداءاتها وانسحابها من النقاط التي لا تزال تحتلها داخل الأراضي اللبنانية.

غير أن هذا المسار يفتح باباً واسعاً للتساؤلات حول كيفية مقاربته من قبل القوى الإقليمية والدولية، ولا سيما الولايات المتحدة والسعودية. فهل سيعتبرانه مجرد تكتيك لبناني ظرفي يستوجب المزيد من الضغط والانقلاب عليه كما حدث في محطات سابقة؟ التجارب التاريخية معقدة، وتُظهر أن أي محاولة لبنانية من هذا النوع غالباً ما تكون عرضة لضغوط خارجية تعيد خلط الأوراق.

موقع البيان في الإستراتيجية “الإسرائيلية”

بالنسبة لـ”إسرائيل”، يبقى نزع سلاح حزب الله الهدف المركزي والثابت في إستراتيجيتها تجاه لبنان. فهي ترى في الحزب التهديد الأكبر لأمنها القومي، وتتعامل مع كل متغير سياسي لبناني انطلاقاً من مدى تأثيره في هذا الهدف. وعليه، فإن البيان الوزاري الأخير، إذا اكتسب صفة الاستمرارية، ولم يتم الانقلاب عليه داخلياً أو خارجياً، يتعارض مع رهانات “إسرائيل”، الأمر الذي يرجح أن تدفع “تل أبيب” باتجاه مواجهته بمزيد من الضغوط والتهويل.

من غير المتوقع أن توافق “إسرائيل” على مطالب لبنان بالانسحاب من النقاط العسكرية التي ارتفع عددها من خمس إلى نحو تسع نقاط، أو على وقف اعتداءاتها المتكررة، لأن هذين البندين يرتبطان مباشرة بالإستراتيجية العملياتية التي اعتمدها الجيش “الإسرائيلي” بعد عملية “طوفان الأقصى”. وقد عبّر كبار قادة الجيش عن ذلك بوضوح: اللواء رافي ميلو، قائد المنطقة الشمالية الجديد، أكد أن “الحرب لم تنته بعد”، وأن “إسرائيل” ستواصل “الهجوم والضرب وتدمير كل تهديد”. أما رئيس الأركان إيال زامير، فشدد على أن “معادلة التفوق شمالاً تقوم على فعل هجومي متواصل، علني وسري، يهدف إلى تدمير التهديد في مراحله الأولى”.

في الخلاصة، يظهر من كل ما سبق أن البيان الوزاري اللبناني الأخير أوقف مؤقتاً انزلاق الساحة الداخلية نحو الانفجار، ومنح لبنان هامشاً سياسياً وقانونياً لتعزيز موقفه أمام المجتمع الدولي. لكن هذا الإنجاز لا يزال هشاً، وقابلاً للتبدل تحت تأثير الضغوط الداخلية والخارجية. أما بالنسبة لـ”إسرائيل”، فإن البيان يقف عائقاً أمام مشروعها الإستراتيجي الرامي إلى نزع سلاح حزب الله، ما يعني أنها ستسعى لتعطيله أو الالتفاف عليه. وهنا يطرح السؤال المحوري نفسه: هل ستصدق الحكومة بالعودة إلى العقلانية في مقاربة التحديات وتحويل هذه الخطوة من مجرد هدنة ظرفية إلى قاعدة سياسية صلبة، أم أنها ليست أكثر من استراحة قصيرة قبل جولة جديدة من الضغوط؟.

الوقت التحليلي

قد يعجبك ايضا