من الحرب إلى الوصاية: كيف تُعاد هندسة غزة في مختبر السياسة الأمريكية الإسرائيلية؟

 الوصاية الناعمة: استعمار القرن الحادي والعشرين يبدأ من غزة
إعادة الإعمار أم إعادة السيطرة؟ الهدف المعلن يخفي مشروعًا أعمق
الانقسام المصنوع: من تفكيك حماس إلى شرعنة الاحتلال
الحقيقة ـ جميل الحاج
في أعقاب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 8 أكتوبر 2023، تتبلور أمام الرأي العام الدوليّ خطة معقّدة يقودها تحالف غربي- إسرائيلي من جهة، ويستهدف إعادة هندسة الواقع السياسي والإداري والأمني في قطاع غزة من جهة أخرى.

الفكرة المركزية تكمن في إقامة سلطة انتداب دولية أو إدارة انتقالية تشرف على غزة، سواء بعد وقف الحرب أو في حالة انهيار البُنى الإدارية القائمة.

وفقاً لتقارير صحفية، تعمل أمريكا و(إسرائيل) على إعداد مشروع لتقسيم القطاع إلى منطقتين، تمهيداً لفرض وصاية دولية أو دولية-إقليمية على واحد منها، في حين تُترك الثانية تحت حكم محدود لحركة حماس أو ضمن عزلة كاملة اقتصاديًا وسياسيًا.

وفي هذا التقرير نحاول شرح الهدف من وراء هذه الخطة، وفهم هيكلها المقترح، وتحليل الأهداف المعلنة والحقيقية، وكذلك آفاق تنفيذها ومخاطرها.

ـ هيكل المشروع المقترَح – إعادة هندسة غزة تحت وصاية، ولفهم ما يجري، ينبغي أولاً تفكيك المقترح الهيكلي الذي يتضمّنه المشروع.

1ـ تقسيم جغرافي وإداري

وفق تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» فإن أمريكا و(إسرائيل) تدرسان خطة لتقسيم قطاع غزة إلى منطقتين منفصلتين، بحيث تُمنح الأولى مشاريع إعادة إعمار واستثمارات وتُخضع لسيطرة الاحتلال، فيما تُترك المنطقة الثانية تحت حكم حماس في عزلة اقتصادية وسياسية حتى يتم نزع سلاحها أو تصفية دورها كقوة مؤثرة.

وفي إطار هذا المنطق، تم الإشارة إلى منطقة شرق غزة ـ وتُدعى أحيانًا “دولة شرق غزة” ـ تُقسَّم إلى خمس مناطق للتجربة الأولى، تبدأ مشاريع الإعمار فيها في مدينة رفح جنوب القطاع، تحت سيطرة أمنية إسرائيلية/أجنبية، بينما يُترك الجزء الآخر تحت سيطرة حماس مع تدهور الخدمات.

كما أن هناك أيضاً مفهوم «الخط الأصفر» الذي يُحدّد التقسيم الجغرافي التقريبي بين منطقتَي السيطرة، وبين المنطقة التي تخضع لجيش الاحتلال والخدمات الدولية، والمنطقة التي ستبقى تحت حماس، بدرجات متفاوتة من السيطرة.

2ـ سلطة انتقالية أو انتداب دولي

المشروع يتضمّن فكرة إنشاء سلطة مؤقتة وهي آلية يُفترض أن ترعاها الولايات المتحدة ودول غربية، لإدارة المرحلة الانتقالية في غزة، قبل تسليمها إلى سلطة فلسطينية أو عربية أو خليط منها.

وهذه السلطة ستكون مسؤولة عن إعادة البناء، الإعمار، الخدمات، الأمن العابر، وربما إدارة التمويل الدولي التنفيذي.

وفي الواقع، هذا ما يتعلّق به المشروع: ربط القرارات الدولية بالتنفيذ المحلي، بحيث يتواجد دور “إداري دولي- محلي” مفتعل يغلب عليه ضغوط اقتصادية وأمنية.

ومن ضمن الهيكل المقترَح، سيبقى الجيش الإسرائيلي أو قوات أجنبية مشاركة ضمن قوة أمنية أو “قوة استقرار” دولية لحين تنفيذ مقبلات معينة، مثل نزع سلاح حماس وإخراجها من مجلس السلطة أو من الحكم الفعلي.

3ـ آليات التنفيذ والموارد

تُطرح مقترحات بأن الجزء الذي تحت سيطرة الاحتلال/الإدارة الدولية سيشهد تدفّقاً للاستثمارات الدولية، مشاريع بنية تحتية، مناطق صناعية نموذجية، تحويلات كبيرة، دعم خارجي، وغيرها، بهدف إثبات “نجاح” الإدارة الجديدة.

وفي المقابل، المنطقة التي تظل تحت سيطرة حماس أو تخرج تدريجياً، ستُعاني من عزلة اقتصادية، إنسانية، وخدمية: حصار، إغلاق واردات، إعاقة إعادة الإعمار فيها، ما يُشكّل ضغطاً للقبول بشروط الصفقة.

 الأهداف المعلَنة

إعادة الإعمار والاستقرار على المستوى الرسمي والإعلامي، تُعلن الخطة على أنها تهدف إلى: إعادة إعمار غزة المدمّرة نتيجة الحرب الإسرائيلية، وتحسين الأوضاع المعيشية للسكان المدنيين.. وإعادة إدماج غزة في كيان سياسي فلسطيني أوسع، مع إدارة مؤقتة أو إعادة هيكلة للسلطة الفلسطينية بمشاركة دولية وعربية.

ـ الأهداف الحقيقية.. التمكين الاستعماري والتلاعب السياسي والاقتصادي

رغم ما تُعلن الخطة، فإن تحليل الواقع يشير إلى هدف أعمق وأكثر استراتيجية:

1ـ تفكيك سلطة حماس ونزع سلاحها

وتعمل الخطة على إضعاف حركة حماس سياسياً وعسكرياً، عبر تجزئة القطاع إلى منطقتين: منطقة تبشّر بها بالنهضة، وأخرى تظل تحت الحصار والعزل حتى تستجيب لحوافز التنازل أو تُزلزل سلطة حماس.. ووفق التقارير، فإن المسعى ليس فقط إضعاف حماس بل “تغيير الواقع الحاكم” في غزة، بإخراجها من موقع السلطة أو تقزيمها إلى حركة تحتكر فقط الشأن اللاسياسي.

2ـ فرض النفوذ الإسرائيلي/الأجنبي طويل الأمد

المنطقة التي تحت السيطرة الإسرائيلية أو تحت سلطة الانتداب الدولي تصبح بمثابة “واجهة تنموية” يتم التحكم بها من قِبل الأطراف الغربية/الإسرائيلية..  وهذا يُحيل إلى استمرار وجود عسكري أو أمني إسرائيلي، أو نفوذ مباشر، حتى بعد نهاية الحرب.

ويرى بعض المحللين أن المشروع هو محاولة لإضفاء طابع قانوني/إداري على واقع احتلالي طويل الأمد، من خلال عنوان التنمية والإعمار، وتحوّل القطاع إلى “جزء مُدار” من منظومة النفوذ الغربي-الإسرائيلي.

3ـ استغلال إعادة الإعمار كأداة ضغط وتحويل اقتصادي

ليست إعادة الإعمار فقط خدمة إنسانية، بل أداة تربط المواطنين والنخب المحلية بشبكات تمويل خارجي، تُقيّدهم بشروط ومشاركة أجنبية، وتضعهم تحت مراقبة السلطة الانتقالية أو الاحتلال.

ومن جهة أخرى، فإن ترك جزء من القطاع محاصراً ومهمّشاً يُشكل نموذجاً للمقارنة: “المنطقة التي نجحنا فيها – والمنطقة التي لم نفلح فيها” ويُستخدم كحافز داخلي للتسليم بالشروط أو تغيّر القوى السياسية.

4ـ تقويض فكرة وحدة الأراضي الفلسطينية ومستقبل الدولة الفلسطينية

من خلال تقسيم فعلي للقطاع، وإنشاء سلطة دولية أو سلطة تابعة، تُفتَتح خطوة نحو تقليص فكرة “غزة موحدة” أو “غزة والضفة تحت سلطة فلسطينية واحدة”. وتحويل غزة إلى منطقة منفصلة إدارياً، ما يُضعف الحجة لدولة فلسطينية متّحدة وشاملة.

 تداعيات المشروع على السياسة والاقتصاد والثقافة في غزة

أ) سياسيًّا: إضعاف حركة حماس، وتهميشها تدريجياً من المواقع السياسية والإدارية الحاكمة، وإعادة هندسة السلطة الفلسطينية في غزة، وربما ربطها بسلطة فلسطينية مُعاد بناؤها أو بآلية دولية-عربية، وتحوّل القرار السياسي من الداخل الفلسطيني إلى إطار دولي أو احتلالي، ما يعني تقليصاً لحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، مع إمكانية أن يصبح للقوى المحلية (من غير حماس) دور أكبر، لكن تحت وصاية أو إشراف أجنبي، ما يطرح تساؤلات حول شرعيتها واستقلاليتها.

ب) اقتصاديًّا: تدفّق استثمارات ضخمة إلى الجزء “النموذجي” من غزة، ما قد يحوّله إلى منطقة نموّ وتجربة، وربما إلى “مدينة نموذجية” على الحدود مع (إسرائيل)، وفي المقابل، الجزء الآخر يُعاني من إهمال، عقبياً اقتصاديًا، وبنيته التحتية تظل مدمّرة أو غير مهيّأة، ما يُوسّع الفجوة بين المنطقتين.. والاعتمادية على الاستثمارات الخارجية والشركات الدولية تجعل القرار الاقتصادي أقل فلسطينية وأكثر توجيهاً من الخارج، مع خطر تحويل القطاع إلى منفعة اقتصادية خارج سلطة المواطنين، في حين قد يُستخدم “الجزء الناجح” من غزة كوسيلة ضغط داخلي ـ المواطن يقول: إن أردت أن تعيش في هذه المنطقة، تسلّم الشروط؛ أما إن اخترت المجلس الآخر، فعليك التعايش تحت ظروف مختلفة.

ج) ثقافياً واجتماعياً: تقسيم جغرافي وإداري داخل غزة يضعف الشعور بالوحدة المجتمعية بين سكان القطاع، ويحتمل أن يعزّز الشعور بالتمييز أو “المنطقة المحظوظة” مقابل “المنطقة المحتجَزة”، التدخّل الدولي في الإدارة والتنمية قد يؤدي إلى تغيّر في المشهد الثقافي فعلى سبيل المثال، استثمارات ترفيهية أو مشاريع مدنية كبيرة قد تُغيّر نمط الحياة، بينما الجزء الآخر يعيش في وضع مأساوي يُحتمل أن يولّد استياءً أو انكساراً أو تحوّلات سلوكية.

في حين قد تُشرَدّ الهوية الفلسطينية بالتدريج عن الواقع المحلي إلى مشاريع تُدار من الخارج، ما يعني تغيّراً في مكانة غزة ضمن الوعي الفلسطيني ككل، وربما انفصالاً شعورياً عن الضفة الغربية أو عن المشروع الوطني الفلسطيني.

وبالفعل، ما يُطرح اليوم ليس مجرد اقتراح لتسوية ما بعد نزاع، بل مشروع يُخمّن أن يشكّل علاقات القوة والسيطرة في غزة، وربّما في كامل الساحة الفلسطينية، لسنوات قادمة. إنه مشروع يعيد رسم الخريطة الجغرافية، الإدارية، الأمنية، والاقتصادية، ويُلبّس بسمة “إعمار وتنمية” لكن خلفها مشهدٌ من النفوذ والتحكّم.

إذا نجحت المبادرة، فإن الفجوة بين القطاعين – “المنطقة التي تُدار تحت وصاية” و”المنطقة التي تُترَك تحت الضغط” – ستتسع، وسيصبح لكل منطقة نموذج إدارة موازٍ، ما يضعف فكرة غزة الموحدة، بل ويهيئها لأن تكون جزءاً من مشروع أكبر لتثبيت النفوذ الأميركي-الإسرائيلي في المنطقة.

إن غداً قد يكون واقعاً يصعُب الرجوع عنه، وإن ما يُعرض اليوم تحت شعار «إعادة إعمار» قد يتحوّل إلى «إعادة هندسة» سياسية وأمنية واقتصادية، لا يملك الفلسطينيون فيها القرار النهائي.

لذا، فإن قراءة العروض التنموية بحذر، والتمييز بين مضمونها والتنفيذ على الأرض، سيكونان مفتاحَي فهم ومقاومة أي مشروع يهدد وحدة غزة وحقوق سكانها في تقرير مصيرهم.

قد يعجبك ايضا