النزعة الانفرادية في السياسة الأمريكية وتاريخ التدخلات الخارجية

 التدخلات العسكرية والاقتصادية: آثار عدم الاستقرار على المناطق المتضررة
الهيمنة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية: جذور النزعة الانفرادية
السياسة الخارجية الأمريكية بين القيادة العالمية والانفراد بالقرار

الحقيقة ـ جميل الحاج

يُلاحَظ عبر مسار السياسة الدولية أن الولايات المتحدة تبنّت، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص، نمطًا من السلوك السياسي يميل إلى الهيمنة والانفراد بالقرار العالمي. وتستند الانتقادات الموجّهة لواشنطن إلى ما يراه العديد من المراقبين والشعوب المتضررة من تدخلات عسكرية وسياسية واقتصادية أدّت إلى عدم الاستقرار وتفاقم الأزمات في مناطق شتى من العالم.

تُعَبّر هذه الرؤية النقدية عن اعتقاد واسع بأن الولايات المتحدة لا تسعى فقط إلى قيادة النظام الدولي، بل إلى التحكم فيه منفردة، وهو ما يثير جدلاً عميقًا حول طبيعة سياساتها الخارجية ونتائجها الإنسانية والسياسية.

 النزعة الانفرادية في السياسة الأمريكية المعاصرة

تتجلى النزعة الانفرادية في السياسة الأمريكية المعاصرة في سياسات خارجية تميل إلى “أمريكا أولاً”، مع التركيز على المصالح الوطنية، وتفضيل القرارات الأحادية بدلاً من التحالفات الدولية واسعة النطاق. تتضمن هذه النزعة موقفًا يتميز بعدم الانخراط في الصراعات الخارجية والتحالفات، مع تفضيل الحلول العسكرية والاقتصادية أحادية الجانب، والانسحاب من الاتفاقيات الدولية الهامة.

وترجع هذه النزعة إلى مخاوف من التورط في صراعات أجنبية والتركيز على الإصلاحات الداخلية، بالإضافة إلى تبني بعض الأفكار التي ترتكز على التفوق الأمريكي.

وتعتبر صورٌ مثل اجتماع الرئيس الأمريكي مع قادة دول في البيت الأبيض، حيث يظهر تباين واضح في موازين القوة، رمزًا لدى بعض المحللين للنزعة الأمريكية المتصاعدة نحو الانفراد والهيمنة في العلاقات الدولية.

وتشير القراءات السياسية إلى أن الخطاب الأمريكي في السنوات الأخيرة سواء خلال رئاسة دونالد ترامب أو غيره، يعكس توجّهًا يرى الولايات المتحدة مركزًا للنظام العالمي، مع تقليص أي دور للقوى الأخرى، سواء كانت دولًا كبرى أو إقليمية.

 التدخلات العسكرية والنزاعات

تدخلت أمريكا عسكريًا في العديد من النزاعات عبر تاريخها، سواء بالحرب المعلنة أو التدخلات غير المعلنة، وذلك لأسباب متنوعة مثل توسيع النفوذ وحماية المصالح ونشر الأيديولوجيات.

وتشمل التدخلات حروبًا تاريخية مثل الحرب الأمريكية المكسيكية والحرب العالمية الأولى والثانية، وصراعات حديثة في مناطق مثل الشرق الأوسط وأفغانستان، إلى جانب تدخلات في المنطقة العربية خدمتا للعدو الإسرائيلي، ودعم جماعات مسلحة وتكفيرية في دول مختلفة.

1ـ الشرق الأوسط

تاريخياً، تميز التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط بالاستفادة من الموارد النفطية، ودعم حلفاء مثل (إسرائيل)، وتنفيذ عمليات عسكرية، مثل الغزو الأمريكي للعراق، والعدوان على اليمن، وعلى كل من يشكل خطر على مصالحها أو على “إسرائيل” وتعمل سياسة الولايات المتحدة في حروبها تحت مبررات وعناوين زائفة مثل (مكافحة الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل)، والمصالح الاقتصادية (ضمان تدفق النفط)، والدعم العسكري للدول الصديقة.. ويري كثيرون أن الدور الأمريكي في المنطقة أحد أسباب عدم الاستقرار:

العراق (2003): أدّى الغزو الأمريكي إلى سقوط مئات الآلاف من الضحايا وتفكك مؤسسات الدولة، وهو ما اعترفت به لاحقًا جهات أمريكية لجهة عدم وجود أسلحة دمار شامل كما زُعِم عند تبرير الحرب.

أفغانستان: بعد 2001 تحوّل التدخل الأمريكي إلى حرب طويلة خلّفت خسائر بشرية كبيرة، وتعرّضت واشنطن لانتقادات واسعة بسبب الانتهاكات في السجون والقصف العشوائي.

سوريا وليبيا: تتهم أطراف كثيرة الولايات المتحدة بلعب دور في تأجيج الصراعات عبر دعم جماعات مسلحة أو فرض عقوبات عمّقت الأزمات.

2ـ اليمن:

تُظهر وثائق وتقارير متعددة أنّ الولايات المتحدة لعبت دورًا محوريًا في مسار الصراع اليمني، سواء عبر دعمها العسكري لتحالف العدوان من خلال بيع الأسلحة وتقديم الدعم اللوجستي، أو عبر تدخلات سياسية أثرت في مسار الأحداث الداخلية.

وتشير هذه الوثائق إلى أنّ واشنطن عملت، بالتعاون مع النظام السابق، على إضعاف منظومة الدفاع الجوي منذ عقود.. كما تُبرز أن اللقاءات المكثفة بين الرئيس السابق علي صالح ومسؤولين أمريكيين كانت من العوامل التي سبقت حروب صعدة الست (2004–2010)، إضافة إلى ما يُوصف بدورٍ وصائي بعد ثورة 2011. ووفقًا لوثيقة مسرّبة، نُسب إلى السفير الأمريكي الأسبق في صنعاء، توماس كراجيسكي، قوله إن فريقًا “مدرَّبًا من قبل الحكومة الأمريكية” شارك في العملية التي قُتل فيها مؤسس حركة “أنصار الله”، الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي، إلى جانب مساهمة واشنطن بخرائط وبيانات مسح جوي.

كما تفيد الوثائق بأن طلبًا قدّم في عام 2012 من الملحق العسكري الأمريكي لمراقبة موقع «اللواء الثاني» التابع لسلاح الجو اليمني، وهو أحد أوائل الأهداف التي طالها القصف عند بدء العمليات العسكرية في 26 مارس 2015. وتكشف وثائق “ويكيليكس” عن علاقة تعاون بين واشنطن والنظام السابق في إدارة هذه الملفات بما يخدم مصالح الولايات المتحدة الجيوسياسية، على نحوٍ اعتُبر مساسًا بالسيادة الوطنية.

وواصل الأمريكي دورة التخريبي في أنشاء تحالفات وشن عدوان على اليمن دعما للعدو الإسرائيلي بهدف إيقاف العمليات اليمنية المساندة لغزة، والتي فرضت حصار على الملاحة الإسرائيلية ومن يرتبط به.

3ـ فلسطين:

تواجه واشنطن انتقادات مستمرة بسبب دعمها السياسي والعسكري الكامل لـ “إسرائيل” وعرقلة المساءلة الدولية، مما يُنظر إليه كعامل أساسي في استمرار الصراع ومعاناة الفلسطينيين.. وصولا إلى الدعم العسكري والسياسي للعدو الإسرائيلي ومشاركته في الإبادة الجماعية بحق سكان غزة.

 التاريخ المبكر للولايات المتحدة وانتقادات الماضي

1ـ السكان الأصليون:

يصف باحثون تاريخ تعامل الولايات المتحدة مع الشعوب الأصلية بأنه اتسم بسياسات قسرية أدت إلى تهجير جماعي، وفقدان الأراضي، ومجازر منها حادثة ووندِد ني (Wounded Knee) عام 1890.

تُعد هذه المرحلة أحد أبرز المحاور التي يستند إليها المنتقدون عند الحديث عن جذور العنف البنيوي في تاريخ الولايات المتحدة.

2 ـ التوسع الخارجي المبكر

شهد القرنان التاسع عشر والعشرون تدخلات أمريكية متكررة في أمريكا اللاتينية، شملت دعم انقلابات وإسقاط حكومات منتخبة، بالإضافة إلى حرب فيتنام التي خلفت ملايين الضحايا واستخدام أسلحة كيميائية مثل “عامل أورانج”.

الحرب العالمية الثانية واستخدام السلاح النووي

يشكّل قصف هيروشيما وناغازاكي عام 1945 أحد أكثر قرارات الحرب جدلًا في التاريخ، ورغم أن واشنطن تعتبر الضربة ضرورة لإنهاء الحرب، يرى العالم أنها تُعد مثالًا صارخًا على استخدام القوة المفرطة دون اكتراث بالأثر الإنساني الهائل.

السياسات الاقتصادية والعقوبات

1ـ كوبا.. استمر الحصار الأمريكي لعقود طويلة، ما أثّر بشدّة على الاقتصاد الكوبي والوضع المعيشي.

2ـ فنزويلا.. ترى جهات عديدة أن العقوبات الأمريكية فاقمت الأزمة الاقتصادية وادت إلى تداعيات إنسانية حادة، واليوم يسعي إلى شن حرب على فنزولا واسقاط النظام الحالي، بهدف السيطرة على النفط الفنزويلي والذي يمتلك أكبر احتياطي في العالم.

وفي هذا التقرير تم الربط بين التاريخ الأمريكي، من التوسع غربًا إلى الحروب الحديثة، وبين ما يعتبره أصحاب هذا الطرح سياسة موجهة نحو الهيمنة والانفراد بالقرار العالمي.

ورغم أن الولايات المتحدة تقدم نفسها كقوة مدافعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن سجلها العسكري والسياسي يثير جدلًا مستمرًا حول مدى اتساق هذه المبادئ مع الواقع الميداني.

وتبقى قراءة السياسات الأمريكية مسألة معقدة ومتعددة الجوانب، تجمع بين مصالح استراتيجية، وتدخلات مثيرة للجدل، وحضور عالمي واسع، يراها البعض ضمانًا للاستقرار، بينما يراها آخرون مصدرًا لصراعات وأزمات ممتدة.

قد يعجبك ايضا