القرآن الكريم كتاب الهداية وبوصلة الوعي في زمن الظلمات

عبد الرحمن الحمران

ليس القرآن الكريم كتابًا تاريخيًا أو سرديًا يقدم الوقائع والأحداث كما تفعل كتب التاريخ، بل كان – وما يزال – كتاب الهداية للعالمين جميعًا.

تلك الحقيقة التي قد تغيب عن أذهان الكثير هي جوهر الرسالة القرآنية: أي أن هذا الكتاب نور يُهتدى به، ومرجع يعيد تشكيل وعي الإنسان ويضيء له طريق الحياة, يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، وهو تصريح واضح بأن الهداية هي الغاية الأساسية من إنزال القرآن.

الهداية هنا ليست مجرد توجيه أخلاقي، بل تشريع متكامل من البصائر والمعارف التي تكشف للإنسان حقيقة الواقع، وتقيّم له القضايا والأحداث، وترشده إلى المواقف الصحيحة التي لا تستقيم الحياة إلا بها ولا يُبنى الجزاء إلا على أساسها, يقول الحق تبارك وتعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.

وفي زمن تراكمت فيه الظلمات، وتزاحمت فيه وسائل التضليل التي تمتلك قوة إعلامية هائلة، يصبح الرجوع إلى هذا الكتاب ضرورةً لا غنى عنها؛ فالقوى الظلامية اليوم تصنع المفاهيم الخاطئة والثقافات المغلوطة وعبْرَ كمٍّ هائل من الرسائل المضلِّلة توجّه الرأي العام، وتُعيد تشكيل وعي الناس بعيدًا عن الحق.

وفي مواجهة هذا الضلال المتراكم، لا يبقى للإنسان إلا نور الله، النور الذي يبدد كل أشكال الظلام ويكشف حقيقة الأشياء مهما بلغت كثافة التضليل.

وهذا ما أكده الله تعالى في قوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، وفي قوله أيضًا: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. إنها رسالة واضحة بأن القرآن لم يُنزَّل ليُقرأ دون أثر، أو يُتلى دون أن يُغيّر في داخل الإنسان وواقعه، بل ليكون قوة تقود إلى الوعي والبصيرة, وتنعكس عملًا ومواقف يتلاشى كل باطل أمامها.

وفي هذا السياق يقول شهيد القرآن السيد حسين بدرالدين الحوثي: “مهمة المؤمن يجب أن ترقى بحيث تصل إلى درجة تستطيع أن تجتاح الباطل وتزهقه من داخل النفوس، ومتى ما انزهق الباطل من داخل النفوس انزهق من واقع الحياة، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}”.

وعلى الرغم من ذلك، يعيش كثير من المسلمين اليوم فجوة واسعة بينهم وبين القرآن؛ فقد باتوا يتعاملون معه ككتاب روحاني تُقرأ آياته للتبرك، أو كطقس ديني لا صلة له بالواقع والمواقف والقرارات والقضايا والأحداث, هذا الانفصال عن القرآن هو أحد أخطر مظاهر الغربة الحضارية التي تعيشها الأمة، إذ عُزل القرآن جانبًا وجُرّد من دوره العملي، وتحوّل في الوعي العام إلى نص مقدس بلا وظيفة حياتية.

إن القرآن بحرٌ لا يدرك الإنسان قعره، أوسع من الحياة ذاتها، كما قال الإمام علي “ع”: “بحرٌ لا يُدرَك قعره”, كتاب يتجدد عطاءه في هدى آياته ليغطي جميع مراحل الحياة، ويحمل من البصائر والعلوم ما يكفي لإقامة أمة راشدة واعية, وكان المفترض بالأمة الإسلامية أن تكون هي الأمة التي تهتدي فعلاً بهذا الكتاب، وأن تقدّم للعالم نموذجًا حضاريًا راقيًا قائمًا على هدى القرآن, لكن الانجراف خلف تصورات ومناهج بعيدة عن القرآن، أبعدها عن الحكمة وألقاها في وحل الخضوع المخجل لأعدائها وأضاع عليها هذا الدور الحضاري العظيم.

ولو أن الأمة سارت على هدى القرآن لكانت اليوم أقوى أمة على وجه الأرض, لكنها بابتعادها عنه انتكست وأصبحت مواقفها من ارتكاب أشد الناس عداوة لها جرائم الإبادة الجماعية في غزة محط سخرية الأعداء أنفسهم.

إن منهجية القرآن “وحدها” هي التي تستطيع بناء أمة قوية لا تُظلم ولا تُقهر ولا تُضام, وفي هذا السياق يقول شهيد القرآن: “القرآن يشكل خطورة بالغة (على اليهود والنصارى)؛ لأنه فيما إذا رجعت هذه الأمة إلى الإسلام تلتزم بدينها، وإلى القرآن الكريم تعمل به، وتهتدي به فإنه فعلاً ستصبح هذه الأمة قوية جداً، لا تستطيع تلك الدول مهما كان لديها من أسلحة، مهما كان لديها من إمكانيات أن تقهر هذه الأمة”.

إن العودة الصادقة إلى القرآن ضرورة لتغيير النفوس واستعادة الوعي والبصيرة وبناء المواقف الصحيحة أمام الأحداث, وإذا ما عاد المسلمون إليه بصدق ووعي فسيتغير واقعهم حتمًا، ويستعيد المسلمون قوتهم وأدوارهم الحقيقية ومكانتهم اللائقة.

قد يعجبك ايضا