الحصار البحري اليمني وأزمة الحبوب.. كيف ضربت صنعاء الاقتصاد الإسرائيلي في الصميم؟

منذ أن أعلنت القوات المسلحة اليمنية في نوفمبر 2023 فرض حصار بحري على السفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة إلى موانئ الاحتلال، دخلت المنطقة فصلاً جديدًا من الحرب غير المتماثلة، حيث واجهت (إسرائيل) تهديدًا استراتيجيًا غير تقليدي جاء من الجنوب الفقير المحاصر، ولكنه حمل تأثيرًا بالغًا وصل إلى صميم الأمن الغذائي الإسرائيلي، وأعاد رسم معادلات الصراع بطريقة لا تعتمد على الصواريخ فقط، بل على تعطيل الشرايين البحرية وإخضاع الاقتصاد إلى اختناق تدريجي.

ومع اقتراب نهاية صيف 2025، تتضح معالم أزمة غير مسبوقة تهدد الأمن الغذائي في “إسرائيل”، عنوانها العريض: شلل في موانئ الحبوب، وارتفاع متسارع في أسعار الغذاء، وانكماش صناعي وبنيوي متزايد، لقد تمكن اليمن من فرض حصار فعلي لا رمزي، ما جعل المسؤولين الإسرائيليين يقرعون أجراس الإنذار أمام أزمة تهدد أساسيات الحياة اليومية في كيانهم.

اعتماد شبه كامل على الاستيراد البحري

تشير الأرقام إلى أن “إسرائيل” تعتمد على استيراد أكثر من 5.5 ملايين طن من الحبوب والبقوليات سنويًا، تشمل القمح، الشعير، الذرة، وفول الصويا، وفي المقابل، لا تتجاوز القدرة الزراعية المحلية نسبة 10% من الحاجة الاستهلاكية، ما يجعل البلاد عرضة بشدة لأي اضطراب في سلاسل الإمداد العالمية، وخصوصًا تلك القادمة عبر البحر الأحمر والمحيط الهندي.

تُفرغ معظم هذه الشحنات عبر أربعة موانئ رئيسية، ثلاثة منها باتت غير قادرة حاليًا على أداء وظائفها بسبب مجموعة من العوامل المتزامنة: الحصار اليمني، مشاريع البنية التحتية، والنزاعات العمالية.

ميناء أشدود وصوامع داجون: رمزان للشلل البحري

يُعد ميناء أشدود في جنوب فلسطين المحتلة من أهم المرافئ التي تستقبل شحنات الحبوب، وخصوصًا عبر الرصيف رقم 21، الذي يُخصص للبضائع السائبة، لكن هذا الرصيف تم إغلاقه لمدة أسبوعين في أغسطس 2025 ضمن مشروع تطوير ضخم بتكلفة تفوق 1.5 مليار شيكل، ما تسبب بتوقف استقبال الشحنات الحيوية في وقت حساس للغاية.

وفي الشمال، لم يكن الوضع أفضل، فقد توقفت صوامع داجون في ميناء حيفا بالكامل بسبب نزاع عمالي مع الشركة المشغلة “ميلينيوم”، ووسط تهديدات بإضراب شامل أعلن عنه اتحاد العمال “الهستدروت” بدءًا من 12 أغسطس، هذه الصوامع تُعد من أكبر مرافق تخزين وتوزيع الحبوب في “إسرائيل”، وبالتالي فإن تعطّلها يُفاقم من أزمة الإمدادات الغذائية.

أما الموانئ الخاصة والجديدة مثل ميناء “حيفا الجديد”، فليست مؤهلة لاستقبال البضائع السائبة، وتقتصر خدماتها على الحاويات، ما يعني أنها لا تُسهم عمليًا في حل الأزمة.

الحصار اليمني: سلاح استراتيجي

في خلفية هذه التطورات، تقف صنعاء كلاعب رئيسي في خنق الموانئ الإسرائيلية، فمنذ إعلان الحصار، لم تكتفِ القوات اليمنية بالتهديد، بل نفذت عمليات دقيقة ضد السفن المرتبطة بـ “إسرائيل”. من أبرزها:

استهداف سفينتي “يونيتي إكسبلورر” و”نمبر ناين” في ديسمبر 2023.

السيطرة المعقّدة على سفينة “غالاكسي” على بعد 1200 كم من المياه اليمنية، في عملية عسكرية اعتُبرت نموذجًا في الدقة والتخطيط الاستراتيجي.

هذه العمليات لم تكن فقط ناجحة من الناحية العسكرية، بل أثبتت أن اليمن قادر على تنفيذ تهديداته رغم الفارق الهائل في الإمكانيات مع التحالف الأمريكي-الإسرائيلي، وحسب صحيفة يديعوت أحرونوت، فإن هذه النجاحات جعلت من اليمن “معضلة استراتيجية حقيقية” أمام الأمن القومي الإسرائيلي.

أزمة غذائية وشيكة: تحذيرات داخلية وذعر في الأسواق

في ظل الشلل البحري، حذّر رئيس اتحاد مستوردي الحبوب والبقوليات في (إسرائيل) من أن الموانئ لم تعد قادرة على تفريغ الشحنات، وهو ما ينذر بحدوث نقص حاد في الحبوب والأعلاف الحيوانية، وأكد أن استمرارية الوضع تعني ارتفاعًا سريعًا في أسعار الغذاء، وتعطلاً في خطوط إنتاج المصانع الغذائية.

موقع “نيوز وان” العبري أشار إلى أن نحو 85% من الشحنات البحرية أصبحت عاجزة عن الوصول إلى المستهلك الإسرائيلي، في وقت تشهد فيه الأسواق اضطرابات حادة، وسط تصاعد مؤشرات التضخم، وتشير التقديرات إلى أن الأسابيع المقبلة ستشهد:

ارتفاع أسعار الخبز والطحين بنسبة تتراوح بين 15-25%

ندرة في اللحوم المجمدة والزيوت النباتية

نقص في الأعلاف ما يهدد قطاع الدواجن والحليب

تداعيات في قطاع البناء والصناعة

لم يكن قطاع الغذاء وحده هو المتضرر من الحصار، بل توسعت الأزمة لتضرب قطاعي البناء والصناعة، إذ تعاني الشركات من نقص في المواد الخام، وارتفاع في تكلفة الشحن، وتعطل سلاسل التوريد، وتشير بيانات دائرة الإحصاء المركزية في “إسرائيل” إلى ما يلي:

انخفاض تصاريح البناء بنسبة 35% خلال الربع الأول من عام 2025.

تراجع الشقق قيد الإنشاء بنسبة 12%.

انخفاض الشقق المكتملة بنسبة 21.5%.

في المقابل، بدأت بعض المصانع الصغيرة والمتوسطة بإغلاق أبوابها مؤقتًا، في ظل النقص الحاد في قطع الغيار والمواد الأولية، ووفقاً لتقارير إعلامية إسرائيلية، فإن تباطؤ الإنتاج الصناعي بات ملموسًا، وقد يتحوّل قريبًا إلى ركود اقتصادي إذا لم يتم احتواء الأزمة.

فشل أمريكي-إسرائيلي في كسر الحصار

سعت كل من واشنطن وتل أبيب منذ اللحظة الأولى لفرض الحصار اليمني إلى تشكيل تحالف دولي عسكري تحت ذريعة حماية “الملاحة الدولية”، لكن هذه المحاولات فشلت لأسباب عدة، أبرزها:

وضوح المعادلة اليمنية: الملاحة آمنة لجميع السفن باستثناء تلك المرتبطة بـ”إسرائيل”.

الشرعية الأخلاقية والسياسية للحصار، كونه ردًا على حرب إبادة في غزة.

تأييد شعبي واسع داخل اليمن، من خلال مسيرات ليلية وتأييد من جميع القوى السياسية.

مباركة فلسطينية، واعتبار الفصائل لهذا الحصار أداة ردع استراتيجية فعالة.

النتيجة كانت فشل حملة التخويف، وبقاء الموانئ الإسرائيلية تحت الحصار، ما عكس محدودية القوة الأميركية في فرض إرادتها في البحر الأحمر.

التوقعات المقبلة: تضخم، اضطرابات، وإعادة هيكلة قسرية

إذا استمر الحصار دون تغيّر في قواعد اللعبة، فإن الأشهر المقبلة قد تشهد:

أزمات غذائية مركبة تمتد إلى الخضار والفواكه والزيوت.

انهيار في سلسلة الإمداد الصناعية والبنائية.

توسع الغضب الشعبي داخل (إسرائيل) نتيجة ارتفاع الأسعار ونقص المواد الأساسية.

ضغط اقتصادي كبير على الحكومة الإسرائيلية قد يؤدي إلى أزمات سياسية داخلية.

لقد أثبت الحصار اليمني أنه ليس مجرد تحدٍ أمني، بل أداة إعادة هيكلة قسرية للاقتصاد الإسرائيلي، فاليمن لم يُطلق صواريخ، بل استخدم البحر، والقانون، والدقة العسكرية ليفرض معادلة جديدة، عنوانها: من يحاصر غزة، سيُحاصر اقتصاديًا وسيذوق مرارة الاختناق ذاته.

من البحر الأحمر إلى المائدة الإسرائيلية

ما بدأ كرد على العدوان على غزة، تحوّل اليوم إلى معركة استراتيجية ممتدة، تُعيد رسم خطوط الاشتباك في المنطقة، ليس فقط على الأرض، بل في البحر، في المرافئ، وفي صوامع الحبوب.

ومع تزايد الضغوط الداخلية على الحكومة الإسرائيلية، يبدو أن قوة صنعاء الناعمة والخشنة معًا، قد نجحت في تحقيق ما عجزت عنه دول كبرى: تقييد “إسرائيل” دون إطلاق رصاصة واحدة، وشلّ قطاعاتها الحيوية بطريقة تجعل كل يوم يمر مكلفًا أكثر من سابقه.

إنها حرب الحصار الذكي… ومعركة الموانئ، التي أثبتت أن من يملك الإرادة السياسية، قادر على تغيير ميزان القوى، ولو من فوق أمواج البحر الأحمر.

المصدر ـ الوقت التحليلي

قد يعجبك ايضا