الرسول الأعظم .. المعلّم والمربّي والقائد الجهادي ( 1-3)

صادق البهكلي

في رحاب ذكرى المولد النبوي الشريف، يقف الزمان متهيّبًا، وتخشع القلوب في صمتها، إذ تطلّ علينا سيرة رسول الله محمد (صلوات الله عليه وعلى آله) في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى معيته، وأمسّ ما نكون إلى نوره وهديه.
فهو النبيّ القائد، والمعلم المربّي، والقدوة العظمى، ومنبع الرحمة المسكوبة على العالمين. أمامه تقف الكلمات كالأطفال الحيارى: من أين نبدأ؟ أمن طفولته التي ودّع فيها أباه رضيعًا، ثم أمه يتيمًا كسيرًا، فذاق مرارة الفقد قبل أن يذوق حلاوة الشباب؟ أم من شبابه وهو يخرج من ضيق الحاجة إلى سعة الكسب، ويقود القوافل، وفي كل ذاك يُعرف بالصادق الأمين، وكأنما كان الزمان يهيّئه لمقام أعظم؟
أم نبدأ من ولادته الثانية؛ إذ أشرقت في قلبه أنوار الوحي، فوقف وحيدًا أمام عشيرته، يصدع بما أمر الله، فيلقى السخرية والأذى، ويحتمل المؤمنون معه العذاب والسجون، وهو يجول بينهم كالطود الشامخ يهيّئ لهم ملاذًا من بطش الطغاة؟
أم نتبعه في هجرته، وقد خرج من مكة مطاردًا إلا من صاحب يتوجّس، يسمع وقع سنابك الخيل تطارده، فيقول النبيّ بثبات العارف بمعية الله: «لا تحزن إن الله معنا». هناك، بين الخوف البشري واليقين الإلهي، يتجلى الفرق بين رسول الله والناس أجمعين.
ثم نراه وهو يبني الدولة ويصوغ الأمة، يثبت قواعد الإيمان، ويرسل كتبه إلى الملوك والقياصرة يدعوهم إلى كلمة سواء، كأنما كان يحمل قلب العالم بين يديه. وها هو في ميادين الجهاد، القائد المحارب، يخطط وينظم، ويقاتل بعزيمة لا توهَن، من بدر إلى أحد، من الأحزاب إلى خيبر، من مؤتة إلى فتح مكة، حتى حنين وتبوك، ثم جهاده الأخير وهو على فراش الموت يوصي بجيش أسامة، لتظل حركة الرسالة ماضية إلى ما شاء الله.
في هذا التقرير سنبحر في رحاب السيرة المحمدية، لا من زاوية التذكير بالمناسبات فحسب، بل من زاوية استلهام الدروس الكبرى التي شكّلت أعظم تحول في التاريخ الإنساني. سنتناول في هذا التقرير في حلقاته ما تيسر من سيرة الرسول الأعظم (صلوات الله عليه وعلى آله) وحركته الجهادية وتربيته للأمة:
أهمية معرفة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)

إن معرفة الرسول الأعظم (صلوات الله عليه وعلى آله) ليست مجرد وقوفٍ عند حوادث سيرة تُروى، أو أرقام تُحصى في كتب التاريخ، بل هي قضية جوهرية تمسُّ كيان الأمة وحياتها. فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: 164].
فالرسول نعمة عظمى من نعم الله، ورحمة كبرى ساقها للعالمين، ومن هنا فإن معرفته ليست ترفًا معرفيًا، بل ضرورة وجودية، تفيض على الأمة حياةً وهدايةً ونورًا.

وسيرة محمد (صلوات الله عليه وعلى آله) ليست عجائب ومعجزات خارقة تسير منفصلة عن سنن الله في الكون، بل هي حركة حكيمة جرت وفق ترتيبات دقيقة، وخطط محكمة، ورؤية ثاقبة. كان الرسول في قيادته معلمًا في الحكمة، بانيًا للأمة بالمنهج، واضعًا لكل خطوة موضعها، ولكل قائد مكانه، ولكل موقف حكمته.

ولهذا، فإن قراءة السيرة لا ينبغي أن تقف عند حدود: متى كانت الغزوة الفلانية؟ وكم كان عدد المسلمين وكم كان عدد المشركين؟ بل المطلوب أن ننفذ إلى أعمق من ذلك: كيف كان النبي يفكر؟ كيف كان يخطط؟ كيف كان يقيم الموقف العام بين صف المسلمين وصف أعدائهم؟ وكيف كان يتعامل مع الواقع العالمي المحيط في زمانه؟

إن السيرة، حين تُقرأ قراءة تحليلية، تتحول من مجرد أحداث جامدة إلى مدرسة متحركة، تبعث في القلوب العبرة، وتغرس في العقول الفهم، وتمنح الأمة زادًا في صبرها وجهادها، لتظل تسير على خطى معلمها الأول وقائدها العظيم.

واقع العرب قبل المبعث النبوي الشريف

قبل أن يشرق نور محمد بن عبد الله (صلوات الله عليه وعلى آله) على الدنيا، كان الكون غارقًا في ليلٍ طويل من الضلال. فقد عمَّ الانحراف أرجاء المعمورة، واستحكمت ظلمات الجاهلية حتى غطّت على العقول والقلوب، وساد الظلم والجور حتى كاد لا يبقى في الأرض موضع إلا وقد تلوث بفساد أو استبداد.

المجتمع البشري آنذاك كان يعيش على فتاتٍ مشوَّه من موروث الرسالات السابقة؛ فالكتب السماوية قد طالها التحريف على يد اليهود والنصارى، حتى غدت بعيدة عن جوهرها الأول، وأضحت الأباطيل عادات متجذرة، والمفاسد سلوكًا اجتماعيًا ومعتقدات راسخة، تحرسها قوى الطغيان وتباركها الإمبراطوريات المستكبرة.

وفي هذا المشهد القاتم، لم يبق من الأمل للبشرية إلا بشارات الأنبياء عليهم السلام بالنبي الخاتم، الذي كانت إرهاصات ميلاده قد بدأت تلوح في الأفق. لكن قوى الطاغوت حاولت ـ عبثًا ـ أن تُطفئ النور قبل بزوغه، فكانت حملة أصحاب الفيل، حين تحرك الجيش الحبشي الموالي للرومان، ومعه من المرتزقة العرب، صوب مكة لهدم الكعبة المشرّفة، مركز التوحيد ومهوى أفئدة المؤمنين، في محاولة استباقية لإخماد المشروع الإلهي من منبعه الأول.

غير أن القدرة الإلهية سبقت كيدهم، فقصَّ القرآن الكريم خبرهم:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ [الفيل: 1-5].

فكانت تلك الحادثة الفاصلة علامة على أن السماء تحفظ بيتها، وأن المشروع الإلهي ماضٍ رغم مؤامرات الطغاة. ولعلها كانت من أعظم الإرهاصات التي سبقت قدوم النبي الخاتم (صلوات الله عليه وعلى آله)، الذي به سينبلج فجر الهداية، ويُكسر ليل الجاهلية، وتُفتح للبشرية صفحة جديدة من نور ورحمة.

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

النشأة والتربية الإلهية للنبي (صلوات الله عليه وعلى آله)

محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم (صلوات الله عليه وعلى آله)، سيد المرسلين وخاتم النبيين، يتصل نسبه الشريف إلى نبي الله إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، فكان شرفه ومكانته معجزة قبل أن يولد. والده عبد الله بن عبد المطلب توفي قبل مولده بفترة وجيزة، وترك له إرثًا من الشرف والمكانة. وأمه الشريفة آمنة بنت وهب بن عبد مناف، سيدة نساء قريش، كانت مثالاً للطهارة والعفاف والصلاح، ومن أهل مكة حيًّا وسيرة، وقد رحلت عن الدنيا وهو في السادسة من عمره.

جده عبد المطلب، شيبة الحمد، كان ذا شأنٍ ومكانة عظيمة بين قريش والجزيرة العربية كلها، معززًا للهداية والحنفية على منهج إبراهيم، وقد تولى رعاية حفيده بعد وفاة والديه، فكان سندًا وحصنًا له في صغره، مُظهراً له عناية فائقة بما منحته السماء من نعمة: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾.

ولد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) في مكة المكرمة، في الثاني عشر من ربيع الأول، في عام الفيل، وكانت حادثة أصحاب الفيل إرهاصًا مبكرًا لقدوم هذا النور المبارك. فرح جده عبد المطلب بمولده، وأخذه إلى الكعبة تبركًا وتقربًا إلى الله بالدعاء، مستودعًا ذلك الطفل في رحمة السماء وحفظها، وبدأت رحلة النشأة المباركة التي أنبتته نباتًا حسنًا، سريع النمو، ناضج الفهم، عميق الإدراك، راقٍ الأدب، متميزًا منذ صغره.

تجلت في نشأته علامات الفضيلة:

  • حرصه على الطهارة وصيانة النفس.
  • البعد عن السلوكيات التي تدل على قلة الأدب أو ضعف الإدراك.
  • نضج فطري في الإدراك والتمييز، وسمو أخلاقي واضح.

وفي شبابه، تألق عن غيره من أقرانه: لم يتأثر بالبيئة الجاهلية المحيطة، لم يسجد لصنمٍ قط، وحفظ نفسه عن دنس الجاهلية، وتميز بالتأمل العميق، وبالحكمة والنضج والرصانة، وذاع صيته بين الناس بصادق الأمين، حتى أضحى القدوة في الصدق والأمانة، والهيبة والوقار، وذاهَبُ القلوب لمحبته.

لقد أحاط الله نبيه (صلوات الله عليه وعلى آله) بحفظه وتهيئه للرسالة منذ نعومة أظفاره، حتى جاء الأذن الإلهي بالبعثة، فكان مُعدًا بكل مقدمة، محفوفًا برعاية الملائكة، متألقًا بأخلاقه العالية، متسيدًا في الفكر والحكمة. يقول الإمام علي عليه السلام: ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيمًا أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره.

وعندما بلغ الخامسة والعشرين، ارتحل نحو حياة جديدة، فاختار الزوجة الطاهرة خديجة رضي الله عنها، لتكون شريكة دربه، ورفيقة مسيرته المباركة.

كما برز (صلوات الله عليه وعلى آله) في حل المشكلات الاجتماعية الكبرى، ومن ذلك حادثة الحجر الأسود أثناء إعادة بناء الكعبة، حيث أوقف نزاع القبائل، وحل النزاع بحكمة بالغة، فجعل كل قبيلة ترفع الحجر على قطعة قماش كبيرة، فوضعه بيديه الشريفتين في مكانه، مانعًا الدماء من أن تراق، ومُظهِرًا منذ شبابه قدرة القيادة والبصيرة التي ستصنع تاريخ أمة.

مراحل العهد المكي

حين بلغ رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) الأربعين من عمره الشريف، بعثه الله تعالى بالرسالة إلى الناس كافة، وأمره بالبلاغ بالقرآن الكريم:
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾.
وهكذا بدأ النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) رحلته المباركة، رحمةً للعالمين، وسراجًا منيرًا، يجسّد القيم العليا والأخلاق الفاضلة التي جاء بها القرآن، وكان أول من آمن به وصدّقه زوجته خديجة رضي الله عنها، والإمام علي عليه السلام.

مراحل الدعوة المكية
  • المرحلة الأولى: الأسرة
    بدأ النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) دعوته من محيطه الأقرب، ليكون أول نواة للإيمان، أول لبنة في صرح الرسالة الإلهية: هو (صلوات الله عليه وعلى آله) وزوجته خديجة، وعلي بن أبي طالب. استمرت هذه المرحلة سنوات، تُرسّخ الأسس وتغرس بذور الإيمان في القلوب الصافية.
  • المرحلة الثانية: العشيرة
    ثم امتدت الدعوة إلى محيطه العشائري القريب، كما أمره الله: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾، فبدأ بالدعوة بين بني هاشم وبني المطلب، محاولًا استنهاض الضمائر قبل أن يتسع الأمر إلى الناس كافة.
  • المرحلة الثالثة: تعميم الدعوة
    بعد ذلك، بدأت دائرة الدعوة تتوسع بين بقية قريش، فكان النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) يصدع بالرسالة بين القبائل: ﴿فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين﴾. وبدأت مرحلة الصدع الصريح بالرسالة، التي امتدت لتشمل جميع أنحاء مكة، وفتحت الطريق لتعميم الدعوة على المنطقة العربية كلها.
مقاومة قريش للإسلام

امتد العهد المكي ثلاثة عشر عامًا، كان خلالها عدد الذين أسلموا قليلاً نسبيًا، وكانت قريش تحارب الدعوة بكل ما أوتيت من قوة:

  • بالاعتداء على من يسلم، خصوصًا الضعفاء الذين لا حماية لهم من قبائلهم، فتعرّضوا للاضطهاد الشديد.
  • بحملات دعائية وتشويهية، واتهموا النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) بالجنون والسحر، رافضين القرآن نفسه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾.
حادثة الإسراء والمعراج

وفي مرحلة ما قبل الهجرة، أسرى الله نبيه (صلوات الله عليه وعلى آله) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في رحلة ليلية عجيبة، حملت إشارات عميقة، دلّت على:

  • مستقبل الصراع بين المسلمين وأعدائهم،
  • الدور التخريبي للمفسدين في الأرض،
  • عاقبة هؤلاء المحتومة على يد الله،
  • وعد الله بحفظ دينه وتمكين رسله.
الهجرة إلى الحبشة

كان من حكمة النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) إرسال بعض ضعفاء المسلمين إلى الحبشة هربًا من الاضطهاد، فاستقبلهم ملك عادل هناك، وأرسل معهم جعفر بن أبي طالب ليكون أميرًا عليهم، فتأمنت هذه البذرة الصغيرة من الدعوة في وطن بعيد، محفوظة بيد الله.

بيعة العقبتين

في السنة العاشرة من البعثة، قابل النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) وفدًا من يثرب، فأعلنوا إيمانهم، وكانت بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية بعد عودتهم بعدد أكبر، وابتعث النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) مصعب بن عمير رضي الله عنه لتعليم أهل المدينة الإسلام.

الهجرة النبوية

بعد أن تحرك الرسول صلوات الله عليه وعلى آله في مجتمع غارقٍ في الظلمات، يلفّه الضلال، يسيطر عليه الشرك والكفر، يتربع على صدور الناس الطغيان، والفساد، والظلم بكل أشكاله. ثلاثة عشر عامًا قضاها النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) في كفاحٍ وجهاد متواصل، صبرٍ دؤوب، وجهدٍ متواصل في تبليغ رسالة الله، وتزكية النفوس، وتحريرها من عبودية الباطل، وسرّحها إلى عبودية الحق، مجاهدًا في تغيير واقعٍ غارق في الظلال والهوان.

حتى جاء الإذن الإلهي، فبلغ الطرفان – جانب الحق وجانب الباطل – مرحلةً من الخصومة الحاسمة، نقطة فاصلة تمهد لمستقبلٍ جديد.

إن حركة النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) لم تكن مجرد تصرفات عشوائية، بل كانت منطلقة من تصديقٍ كامل بالرسالة التي يحملها. كان قلبه مُطمئنًّا بأن البأس الشديد الذي يجب أن يخشاه العدو من عند الله وحده، وأنه سبحانه مع من يصدقونه في مهمتهم. وقد بلغ اهتمامه وشغفه بالرسالة مبلغًا عظيمًا، حتى قال الله فيه: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ﴾، و﴿إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾، لما رآهم يرفضون الحق ويصدّون عن سبيل الله.

في بداية تحركه، واجه (صلوات الله عليه وعلى آله) ظروفًا صعبة وضغوطًا عظيمة، فقد عانى أتباعه من التعذيب والسجون، وتعرّض لتشويه السمعة بأبشع التهم: شاعر، مفتري، ساحر، وكذاب، حتى القرآن الذي جاء به وصفوه بأساطير الأولين. وعاش النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) ثلاثة عشر عامًا في ظل هذا النظام الباطل، صابرًا محتسبًا، يصدع بالحق، ويباين أقاربه وقومه، ويثبت أتباعه على صراط الله المستقيم. هذه التجربة العصيّة، في صلابتها، هي تمهيد لما ستأتي به مرحلة أكبر، مرحلة الخلاص والتحرر.

مع استمرار ضيق ذرع المشركين، ومع فشلهم في كسر الدعوة بالاعتداءات والشائعات، اجتمعوا لدراسة خطة جديدة للقضاء على الإسلام، يريدون إطفاء النور الذي بدأ يسطع في مكة. وكان النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) حينها مستهدفًا بشكل مباشر، محاصرًا بالتهديد والملاحقة.

وفي هذا الجو الملبد بالخطر، جاء أمر الله سبحانه وتعالى، فأذن له بالهجرة من مكة إلى حيث الأمان، وهكذا قرر النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) الانتقال، مستندًا إلى الله وحده، متجهاً نحو غار ثور، حيث استقر فيه (صلوات الله عليه وعلى آله)، مطمئنًا بحفظ ربه، لا يعلو إلى جانبه أي قوة بشرية أخرى، مختبئًا في غارٍ كانت حمايته بيد الله وحده.

لم تكن الهجرة مجرد انتقال مكاني، بل مرحلة محورية في حياة الرسالة، بداية لبناء أمة جديدة على صراط الحق، امتدادٌ لحركة النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) المباركة، وتجسيدٌ لعزم لا ينكسر، وإيمان لا يضعف، وقيادة ترتكز على اليقين بأن الله هو الناصر والمعين.

عوامل انتهاء العهد المكي

انتهى العهد المكي لأسباب عديدة:

  • أولًا: أن أهل مكة وصلوا إلى نهاية الطريق في قبول الرسالة، كما قال الله: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
  • ثانيًا: وفاة أبو طالب وخديجة رضي الله عنهما، فتعرّض النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) للخطر المباشر: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
  • ثالثًا: ضرورة إيصال الإسلام إلى خارج مكة، وإقامة الحجة على قريش: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ﴾.

وهكذا، كان العهد المكي مدرسة صبر وجهاد في الدعوة، ومدخلًا لإعداد الأمة لمستقبل الرسالة، وميدانًا لتجربة القيادة والحكمة والتخطيط الإلهي الذي جسّده رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله).

………….يتبع

قد يعجبك ايضا