الوقفات القبلية المسلحة: قوة شعبية وإيمانية تعيد تشكيل المعادلة الداخلية والإقليمية
اللقاءات القبلية المسلحة : منظومة صمود وإيمان
تعبئة شعبية قبلية غير مسبوقة: رسالة اليمن الصامدة للعالم
الحقيقة ـ جميل الحاج
شهدت المحافظات الحرة خلال الأسبوعيين الماضيين موجة واسعة من لقاءات حاشدة ووقفات مسلّحة للقبائل اليمنية في أكثر من عشر محافظات، هذه الفعاليات، هذه اللقاءات القبلية المسلحة تأتي في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، وتعتبر حالة خاصة من التعبئة القبلية والاجتماعية التي تجاوزت حدود الفعل الرمزي، لتصبح جزءًا من بنية القوة الداخلية في البلاد.
وفي سياق يتسم بالتحولات الجيوسياسية واستمرار الحصار والعدوان على اليمن الممتد منذ سنوات وبعد عملية الإسناد اليمنية لغزة، تظهر القبيلة اليمنية مرة أخرى كعنصر فاعل في صياغة التوازنات المحلية والإقليمية.
فاليمن، بتركيبته الاجتماعية القائمة على التداخل بين البنى القبلية والهوية الدينية والوطنية، يقدّم اليوم نموذجًا لمجتمع قادر على تحويل روابطه التقليدية إلى أدوات تعبئة وصمود.
ومع هذا الحراك الأخير، تعيد القبيلة اليمنية موقعها في المشهد السياسي بوصفها منظومة دعم اجتماعي ورمزًا للتماسك الداخلي، وترسّخ في الآن ذاته خطابًا يعتبر الدفاع عن الأرض والسيادة قيمة غير قابلة للمساومة.
خلال الأسبوع الماضي والراهن، برزت موجة حراك قبلي واسعة في محافظات متعددة، امتدت من صعدة والجوف وعمران شمالًا، إلى الحديدة وذمار وتعز وإب ومأرب وصنعاء، وصولًا إلى بعض مديريات المحافظات الجنوبية، هذه الفعاليات بشكل وقفات مسلحة ولقاءات قبلية، شارك فيها مشايخ وشخصيات اجتماعية وفاعلون محليون.
ورغم اختلاف ظروف كل منطقة، إلا أن المشهد العام اتسم بعدة سمات مشتركة:
ـ الحضور الجماهيري الكبير الذي يشير إلى قدرة المجتمع المحلي على التعبئة السريعة.
ـ المضامين السياسية الموحّدة التي ركّزت على الجهوزية والاستعداد لمواجهة أي تصعيد.
ـ الطابع التعبوي المرتبط بالهوية الدينية والاجتماعية، حيث أكد المشاركون أن هذه الفعاليات تأتي في إطار ما يعتبرونه واجبًا وطنيًا وإيمانيًا.
ـ التأكيد على وحدة الصف الداخلي في مواجهة التحديات، سواء تلك المتعلقة بالحرب أو بالضغوط السياسية والاقتصادية.
هذا الحراك القبلي على سعته، لم يقتصر على إظهار القوة أو التعبير السياسي، بل قدّم نفسه كرسالة عن تماسك الجبهة الداخلية اليمنية رغم سنوات من المؤامرات والعدوان الخارجي المستمر.
تاريخيًا، لعبت القبيلة اليمنية دورًا مركزيًا في إدارة الحروب الداخلية والخارجية، وفي دعم السلطة أو معارضتها، وفي الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، ويُنظر إلى القبيلة اليوم كمنظومة تعبئة وطنية تمتلك أدوات اجتماعية وثقافية راسخة، تُترجم في لحظات الأزمات إلى حضور ميداني داعم لمؤسسات الدولة أو القوى المحلية.
والتعبئة القبلية التي شهدتها المحافظات اليمنية في الفترة الأخيرة تؤكّد هذا الدور، حيث:
ـ تحولت اللقاءات القبلية إلى فضاءات لإعادة بناء الثقة بين المجتمع والقيادة السياسية.
ـ برزت القبيلة باعتبارها صمام أمان اجتماعي، يساعد في ضبط الاستقرار الداخلي والحد من الاختراقات الأمنية.
ـ تم تعزيز الوعي الجمعي حول أهمية الحفاظ على السيادة الوطنية وعدم الارتهان لأي ضغوط خارجية.
ـ ظهرت القبيلة كفاعل قادر على دعم الجهود الميدانية سواء على المستوى الإنساني أو اللوجستي أو الأمني.
بهذا المعنى، لا تمثل القبيلة اليمنية قوة مسلّحة بحد ذاتها، بل إطارًا اجتماعيًا قادرًا على توجيه الطاقات الشعبية نحو أهداف دينية وأخلاقية وسياسية واضحة، بما يعكس حجم تأثيرها في صياغة القرار داخل المجتمع.
من أبرز ملامح التعبئة القبلية المعاصرة في اليمن هو حضور الخطاب الإيماني في صلب الحراك، هذا الخطاب يشير إلى منظومة قيمية تعتبر الدفاع عن الأرض جزءًا من منظومة الواجبات الدينية، وتربط بين الهوية الإيمانية والولاء للقيادة.
الفعل السياسي لدى شرائح واسعة من المجتمع اليمني أصبح مرتبطًا بـ ”الهوية الإيمانية”، وهي رؤية تؤطر السلوك الاجتماعي وتستند إلى قيم العدالة، نصرة المظلوم، ورفض الهيمنة، وفي هذا السياق، تتخذ التعبئة القبلية طابعًا مزدوجًا:
بُعد ديني يعتبر المشاركة في الفعاليات جزءًا من التزامات روحية ـ بُعد وطني يربط حماية السيادة وحفظ الأرض بالواجب الديني.
هذا التداخل بين الدين والسياسة والاجتماع يجعل التعبئة في اليمن مختلفة عن غيرها من البلدان التي شهدت أشكالًا مشابهة من الحراك، ويمنحها عمقًا جماهيريًا وعاطفيًا يصعب تجاهله.
الوقفات المسلحة والقوافل والدورات العسكرية
ضمن المشهد التعبوي الأخير، برزت ثلاثة مظاهر رئيسية:
ـ الوقفات المسلحة:
وهي فعاليات جماهيرية ترافقها مظاهر للسلاح الخفيفة والمتوسط، وتهدف إلى إيصال رسائل سياسية حول الجهوزية والاستعداد، هذه الوقفات تعكس ثقة المجتمع بنفسه وقدرته على الردع، وتقدم نفسها كأداة ضغط سياسي ورسالة توازن قوة للأعداء في الداخل والخارج.
وخلال الأسبوع شهدت المحافظات حراكاً للقبائل اليمنية، وتجسد في سلسلة من الوقفات المسلحة الكبرى واللقاءات القبلية الحاشدة، أعلنت فيه قبائل اليمن حالة النفير العام والنكف القبلي والجهوزية الكاملة على كافة المستويات استعداداً لخوض “المعركة الفاصلة” ضد تحالف العدوان الأمريكي-الصهيوني وأدواته في المنطقة، مؤكدة أن اليمن قد دخل مرحلة جديدة من الإعداد تحت شعار “طوفان الأقصى” و ”الفتح الموعود والجهاد المقدس”
ـ القوافل الشعبية:
تُعد القافلة في الثقافة اليمنية رمزًا للعطاء والدعم، وتكشف عن تماسك اجتماعي واضح، وقد تحولت هذه القوافل إلى وسيلة لتعزيز الروابط بين الجبهات والمجتمع المحلي، سواء عبر الدعم الغذائي أو المادي أو الرمزي للمرابطين في الجيش اليمني في مختلف الجبهات.
ـ الدورات العسكرية الشعبية:
وهي برامج تدريبية موجهة للمتطوعين، تهدف إلى رفع جاهزية المجتمع في حال حدوث طارئ. هذه الدورات، في بعدها الاجتماعي، تمنح الشعور بالثقة وتعزز مفهوم الشراكة بين المواطن والمؤسسة العسكرية.
وخلال السنوات الماضية واليوم تتجلي في اليمن لوحة متكاملة من التعبئة الشعبية والقبلية، تتجاوز مجرد الوقفات الرمزية لتصبح منظومة متكاملة، قائمة على الالتزام الإيماني، الجهوزية القتالية، والانخراط الوطني المرتبط بالهوية القرآنية للشعب اليمني.
هذه الظاهرة ليست شعارات جوفاء أو مظاهر سطحية للدعم، بل هي امتداد طبيعي لتقاليد اليمنيين الراسخة في الولاء لله أولًا، والدفاع عن المظلومين، والسعي لتطبيق قيم العدالة القرآنية، قبل أي ولاء وطني.
هذه العناصر الثلاثة تشكل اليوم شبكة دعم لوجستي ومعنوي تمتد من القرى الصغيرة إلى مراكز المحافظات وصولاً إلى العاصمة صنعاء.
عند تحليل ظاهرة التعبئة القبلية من منظور استراتيجي، تظهر عدة نتائج ومنها: تعزيز الجبهة الداخلية عبر ربط المجتمع بالقيادة السياسية والأمنية، ورفع مستوى الاستعداد للشعب لأي تحديات مستقبلية، سواء كانت عسكرية أو أمنية أو سياسية، وتعزيز قدرات الردع الشعبي عبر إظهار أن المجتمع ليس مفككًا بل متماسكًا، وكذلك الحد من الاختراقات الأمنية عبر شبكات الرقابة الاجتماعية التي تمتلكها القبيلة بشكل طبيعي، كما تعمل على إعادة تعريف مفهوم القوة في اليمن ليصبح مزيجًا من السلاح، الهوية، الوعي، والانتماء.
من خلال هذه العناصر، تتشكل معادلة داخلية جديدة تتجاوز مفاهيم الدولة التقليدية، وتعيد إنتاج القوة الشعبية في شكل استجابة متماسكة للتحديات.
مع استمرار التوترات الإقليمية وتأخر مسارات الحل السياسي في اليمن، برزت القبيلة مرة أخرى كخط دفاع أول في المجتمع، وأكدت البيانات الصادرة عن العديد من الوقفات واللقاءات القبلية والفعاليات على:
ـ رفض العمالة والخيانة.
ـ تأكيد حماية السيادة الوطنية.
ـ المطالبة بتحصين الجبهة الداخلية.
ـ تجديد التفويض للقيادة السياسية.
كما باركت العديد من القبائل خلال اللقاءات المسلحة الإنجازات الأمنية الأخيرة، واعتبرتها دليلًا على يقظة المؤسسات المختصة. هذه المواقف تؤكد الدور المزدوج للقبيلة بوصفها، جهة اجتماعية تحفظ السلم الأهلي، وفاعلًا سياسيًا يعبر عن رأي شريحة واسعة من المواطنين.
من خلال هذا الحراك القبلي الواسع، قدّم اليمن رسالة محورية مفادها أن:
ـ الأرض اليمنية ليست قابلة للابتزاز أو الشراء.
ـ التهديدات الخارجية لا يمكن أن تكسر تماسك المجتمع.
ـ السيادة الوطنية خط أحمر يجمع كل الفئات.
ـ القبيلة والمجتمع يشكلان حصنًا متينًا في مواجهة التحديات.
وتشير هذه الرسالة إلى أن الصراع في اليمن لم يعد مجرد مواجهة عسكرية، بل أصبح أيضًا صراع إرادات ووعي وانتماء.
ختاماً: إن التعبئة القبلية والشعبية في اليمن ليست حدثًا عابرًا، بل جزءاً من منظومة متكاملة من الوعي الجمعي الذي تراكم عبر عقود من التجارب السياسية والاجتماعية، ومع استمرار التهديدات الإقليمية وتعقّد المشهد الداخلي، تظهر القبيلة مرة أخرى بدور حاسم، ليس فقط في الدفاع أو التعبئة، بل في صياغة هوية وطنية متجددة تجمع بين الإيمان والانتماء والسيادة.
وبهذا المعنى، يقدّم اليمن اليوم نموذجًا شعبياً فريدًا، حيث يلتقي الإرث القبلي العريق مع الوعي القرآني والسياسي، لتشكيل معادلة صمود لا تنهار بسهولة، ورسالة واضحة مفادها أن الحفاظ على الأرض والهوية والسيادة مسؤولية جماعية تتجاوز حدود السياسة لتصبح جزءًا من الوجدان الشعبي.





