بين صلابة المقاومة الفلسطينية ومتاهات وقف إطلاق النار

صالح أبو عزة
كاتب فلسطيني

تبدأ المفاوضات على طاولةٍ مستديرةٍ في واشنطن، وتنتهي إلى غرفتين معزولتين في الدوحة. لا يعني شكلية مباحثاتها التي توصف بالمعقّدة، الدقيقة، البطيئة، في آنٍ معًا، بقدر إدراك جميع أطراف التفاوض والوساطة؛ أنّ ما ينجزه ترامب، بعصاه أَو جزرته، وبسياساته نحو خفض التصعيد في المنطقة، أَو استمرار المعارك المتنقلة؛ يدفع نتنياهو لاتِّخاذ مواقفَ تنعكس مباشرةً على طاولة المفاوضات غير المباشرة في قطر.

وهذا الذي دفعَ موفد الوساطة القطرية، مؤخّرًا، للإسراع بالسفر إلى الولايات المتحدة، في ظل وجود نتنياهو، لعقد مباحثاتٍ عاجلة مع المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين، لتذليل عقبات الخرائط، وعدم إفشال هذه الجولة بإضاعة فرصة التوصل إلى اتّفاق؛ قد تختمر بنوده في الدوحة، إذَا ما أقدمت “إسرائيل” على مزيدٍ من التنازلات للفلسطينيين.

في البيت الأبيض؛ وفي جولتين أَسَاسيتين خلال زيارته، يُفاوِض نتنياهو ترامب حول المكاسب التي ستجنيها “إسرائيل” إذَا ما جنحت نحو صفقة محتملة لوقف إطلاق النار في غزة، وما سيعود به من عطايا أمريكية إلى قوائم المنتظرين في “تل أبيب”.

فإذا كان ما تنتظره عائلات الأسرى، وجمهورٌ واسعٌ من الإسرائيليين قدّرته “يديعوت أحرونوت” العبرية بـ74 %، وجيش الاحتلال الذي بات يرى أن عملياته فقدت كَثيرًا من زخمها العسكري، وقد أوشكت على دخولها في مراحل متقدمة من الاستنزاف؛ صفقةً لوقف إطلاق النار في غزة، وتحرير الأسرى، وإعادة تعريف قضيتهم على أنها “مهمة عليا، وبأي ثمن، ولو كانت على حساب إنهاء الحرب”. فَــإنَّ في المقلب الآخر، مَن ينتظر وعودًا ومكافآت وحُزمة من الاتّفاقات العلنية أَو السرية، تُترجَم في الجغرافيا الفلسطينية المحتلّة، ويتسع نطاقها وُصُـولًا إلى طهران.

بن غفير وسموتريتش؛ ينتظران وعدًا بأنه إذَا ما تجرَّع نتنياهو سُمَّ الصفقة؛ فلا بد أن تكون مؤقتة، رغم معارضتهما لها كمبدأ من الأَسَاس. فالحرب يجب أن تستمر كحالة دائمة، وكجزء من مجهودات العملية التصحيحية للخلل التاريخي والديموغرافيا، وبصرف النظر عن أية أثمان أَو خسائر إسرائيلية، وبصرف النظر عن أية منجزات ومكتسبات. فالأمر كله متعلق بثنائية -وهمية لا يمكن الركون بثقة لتحقيقها مهما استمرت الحرب-، وهي ثنائية الاحتلال والتهجير. إضافة إلى 65 % من الضفة الغربية جائزة لـ”إسرائيل” تبسط سيادتها عليها، ويعترف ترامب بهذه السيادة، كاعترافه السابق في ولايته الأولى بإسرائيلية الجولان السوري المحتلّ.

وأما إذَا لم يحصل نتنياهو على هذا الاعتراف الأمريكي الصريح، فعلى أقل تقدير، ألا تمانع إدارة ترامب المجهودات العملية والقانونية لإلحاق “كيان المستوطنين يهودا” بـ” إسرائيل”.

كما تنتظر أطراف إسرائيلية أُخرى؛ ضوءًا أخضر أمريكيًّا بحرية حركة معقولة لـ”إسرائيل” في الأجواء الإيرانية، على قاعدة منع إيران من إعادة ترميم برنامجها النووي، وتحت ضغط المسارعة في دخول المصارع الإسرائيلي إلى الحَلْبة مجدّدًا، قبل جاهزية الخصم الإيراني واستعادته توازنه.

وهنا تحديدًا ما تقصده “إسرائيل”؛ ما أصاب منظومة الدفاع الجوي الإيرانية من خللٍ في حرب الـ12 يومًا، وقبل إقدام إيران على إعادة إحكام دفاعاتها الجوية مجدّدًا، ما يُفقِد سلاح الجو الإسرائيلي مساراته التي اصطنعها وُصُـولًا إلى أجواء طهران. ونتنياهو الذي هرع سابقًا إلى ترامب يترجّاه -بحسب تعبير عالم السياسة الأمريكي، جون مارشايمر- لإيقاف الحرب مع إيران، لا يكتفي بالضوء الأخضر الأمريكي، بل أن تنحاز الولايات المتحدة إلى هذا الخيار كبديل عن اعتبار ترامب أن الضربات الأمريكية للمنشآت النووية هي نهاية الأمر قبيل العودة إلى طاولة المفاوضات، لا كمسار عسكري دائم، محفوف بمخاطر توسعة الحرب في لحظة حسابات خاطئة تمتد نيرانها إلى كامل الإقليم.

وفي ضوء الحروب المتنقلة التي أشعلتها “إسرائيل”، ودعمتها الولايات المتحدة، ينتظر البعض ويعقد الآمال على اندفاعة أمريكية جديدة، لإحياء مشاريع التطبيع والسلام الإبراهيمي مع دفعة جديدة من الدول العربية والإسلامية، على قاعدة استثمار ما تم إنجازه خلال السنتين الماضيتين، وخَاصَّة الإنجاز التاريخي بإسقاط النظام المعادي لـ”إسرائيل” في سوريا. وبوابة هذا كله؛ بالذهاب إلى إنهاء الحرب على غزة.

نجد أن المشهدَ يلخّصه توجُّـهان عامَّان: – توجّـه يرى بأنه قد آن أوان تطفيف الحروب في المنطقة، على قاعدة أن هنالك مجموعة من المكاسب في كُـلّ ساحةِ قتالٍ اشتعلت، بالذهاب إلى استبدال الضغوط العسكرية بأُخرى سياسية واقتصادية وداخلية، أَو بانخفاض في حدة هذه الحروب إلى حروب الاستهدافات المحدّدة، على غرار الحرب المُستمرّة في لبنان. ومن جانبٍ آخر؛ ترجمة وهم الهدوء الإقليمي باتّفاقات أمنية وأُخرى تطبيعية تشمل دولًا تود الذهاب إليه، وما يمنع بعضها هو استمرار المعارك العسكرية بشكلها الحالي.

وتوجّـه آخر، ما يزال مقتنعًا أن سلسلة الحروب التي استمرت بوتائر مختلفة، عليها أن تعاود الكرّة مرةً تلو أُخرى، على قاعدة أن كُـلّ جولة عسكرية تنتهي بمزيد من الإضعاف لخصوم “إسرائيل”.

أيُّهما أقرب إلى التحقّق، ستشي به الأيّام المقبلة بعد أن عاد نتنياهو إلى “تل أبيب”، وستنكشف حقيقة ما جرى من اتّفاقات في واشنطن، ستترجمها “إسرائيل” أولًا، وقبل كُـلّ شيء، في غزة. سواء باتّفاق لوقف إطلاق النار تخرقه “إسرائيل” في اليوم الـ61، على غرار ما أقدمت عليه في آذار/ مارس الماضي، بخرقها لاتّفاق يناير.

أو أن نرى “إسرائيل” وخلال الـ60 يومًا من الوقف المؤقت لإطلاق النار تندفع نحو مفاوضاتٍ لإنهاء الحرب، ستضغطُ فيها بشكلٍ كبير لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب في مواجهة المقاومة الفلسطينية للتوصل إلى اتّفاق نهائي، تنطلق منه “إسرائيل” لبناء آلياتٍ جديدةٍ في غزة ضمن مسار اليوم التالي؛ بدايتها كما استمرار عدوانها على لبنان، وليس نهايتها بإحكام السيطرة على مِلف الإعمار، لضمان إدارة فلسطينية بعيدة عن حماس، وفتح الباب أمام الفلسطينيين لما تُسمِّيه “الهجرة الطوعية”، بعد أن أفقدت غزة كُـلَّ مقومات الحياة المدنية.

وفي كُـلّ الأحوال؛ سيبقى للفلسطينيين روايتُهم، التي عبّدوها بالدم، وسيُفشِل شعبُها ومقاومتُها مخطّطاتِ عَدُوِّهم بالصمود، ومزيد من الصمود.

قد يعجبك ايضا