تضافر بين الأدوات العسكرية والإعلامية: صنعاء تعزّز نفوذها البحري
صنعاء تفرض حضورها في البحر الأحمر، جامعـة بين العمل الإنساني وفرض قواعد الاشتباك، فيما تكشف محدودية الخيارات الأميركية واعتمادها على وكلاء محلّيين.
قد لا يكون من المبالغة القول إنّ البحر الأحمر اليوم، أصبح تحت إدارة يمنية مباشرة، بعدما نجحت صنعاء في تكريس نفسها لاعباً مركزياً ينظّم مرور السفن وفق خطط مدروسة، تستهدف محاصرة إسرائيل وقطع شرايينها البحرية. ولم يقتصر هذا التحوّل على الجانب العسكري، بل تجلّى أيضاً في ما يُعرف بـ«مركز تنسيق النشاطات الإنسانية» في صنعاء، الذي أضحى واجهة سياسية وإعلامية لإدارة الحضور اليمني في الممرّ المائي، جامعاً بين العمل الإنساني وفرض قواعد الاشتباك البحري وفق رؤية حركة «أنصار الله».
وفي مقابل هذا التمدّد، بدت الولايات المتحدة أكثر حذراً وأقلّ انخراطاً مباشراً، إذ اكتفت وزارة الدفاع الأميركية بالاعتماد على وكلاء محلّيين موالين لحكومة عدن، لمكافحة ما تسمّيه «تهريب السلاح الإيراني» إلى اليمن. وأظهرت تقارير أميركية أنّ الميليشيات التي يقودها طارق صالح، هي التي تولّت، خلال الأسابيع الماضية، اعتراض ما قيل إنهما شحنتان كبيرتان من الأسلحة الإيرانية، تضمّنتا صواريخ مجنّحة وطائرات مسيّرة ومكونات دفاع جوي، كانتا في طريقهما إلى ميناء الحديدة.
وعليه، سارع القائد الجديد لـ«القيادة المركزية الأميركية»، الأدميرال براد كوبر، إلى الإشادة العلنية بتلك القوات، معتبراً أنّ دورها «بالغ الأهمية للحدّ من تدفّق الدعم الإيراني للحوثيين وضمان حرية الملاحة». لكنّ هذه الإشادة، التي تكرّرت ثلاث مرات في الأيام الأخيرة، تعكس في جوهرها محدودية الخيارات الأميركية، واضطرار واشنطن إلى إسناد مهام إستراتيجية إلى طرف محلّي، في وقت تواصل فيه صنعاء فرض قواعدها الخاصة في البحر الأحمر، وتحويله إلى ساحة نفوذ يمني مباشر بعيداً عن المظلّة الأميركية.
وفي إطار هذا المشهد المتناقض، قامت «أنصار الله» بتحديث صفحة «الأسئلة المتكرّرة» الخاصة بمركز «تنسيق النشاطات الإنسانية» الذي تستخدمه الحركة كأداة لإضفاء شرعية على أنشطتها في البحر الأحمر وخليج عدن. فبحسب موقع «ذا ماريتايم إكزكيوتيف» المتخصّص في أخبار الشحن والملاحة، فإنّ مستوى الاحترافية الذي تتميّز به الصفحة، من حيث العرض والتصميم، يتفوّق على العديد من المواقع الرسمية في المنطقة، ما يجعلها قادرة على إقناع بعض المتابعين بأحقّية مطالب صنعاء.
«مركز تنسيق النشاطات الإنسانية» في صنعاء يجمع بين العمل الإنساني وفرض قواعد الاشتباك البحري
أمّا الأكثر إثارة، فهو أنّ الصفحة تدعو السفن العابرة إلى التواصل المباشر مع سلطات صنعاء عبر قنوات مخصّصة، بل وتحثّ مالكي السفن على تقديم «طلبات عبور آمن» قبل 48 ساعة من المرور، متضمّنة تفاصيل دقيقة مثل اسم السفينة وخطّ سيرها. وعدّ الموقع البحري ذلك الأسلوب بمنزلة مصدر استخباري يمكّن «أنصار الله» من تتبّع حركة الملاحة وتحديد أهداف محتملة لعملياتها العسكرية، خصوصاً تلك المرتبطة بإسرائيل أو بالشركات الغربية.
في المقابل، لا تزال «هيئة العمليات البحرية البريطانية»، الجهة الأكثر اعتماداً في قطاع الأمن البحري، تلتزم الحذر في توجيهاتها. فهي تكتفي بنصائح عامة، من دون أن تحسم ما إذا كان على قباطنة السفن التواصل مع مركز صنعاء أو امتثال لمطالبه، الأمر الذي يترك القرار لتقدير القباطنة ويكشف عن فراغ في آليات الحماية الدولية للملاحة.
واللافت أنّ الصفحة الخاصة بسلطات صنعاء، تتبنّى ما تسمّى «إشعارات ما قبل العقوبة» التي تقول إنها أرسلتها إلى 64 مالك سفينة بتهمة خرق الحصار على الموانئ الإسرائيلية. وإذ لم تنشر قائمة كاملة، فقد اكتفت بذكر أسماء 15 شركة دفاع أميركية، في خطوة تحمل أبعاداً سياسية بقدر ما هي عسكرية، وتُظهر قدرة الحركة على توظيف الحرب النفسية والإعلامية في إطار الصراع البحري.
وفي ضوء ذلك، نبّهت شركة استشارات المخاطر البحرية «فانغارد تيك»، منتصف الأسبوع الماضي، إلى أنه «لا ينبغي الاعتماد على أداة مركز تنسيق النشاطات الإنسانية وخدمة الأسئلة المتكرّرة المرافقة لها، كبديل من تقييمات المخاطر الرسمية والمهنية». وأشارت الشركة إلى أنّ ما يجري ليس مجرّد خدمة تقنية، بل خطوة إستراتيجية تهدف إلى إضفاء الشرعية على سلطة «أنصار الله» وصياغة الرواية البحرية لصالحها، في ظلّ عجز واضح للأساطيل الغربية عن فرض قواعدها السابقة.