جنوب سوريا بين فوضى السلطة وتثبيت الاحتلال: مَن يحكم الميدان؟

السلطة السورية المؤقتة: شريك في مشروع أم أداة لتنفيذه؟

سوريا بعد عقد من الحرب: السلطة تغيّرت.. والاحتلال يتمدد

الحقيقة ـ جميل الحاج

لا يحتاج المتابع للمشهد السوري اليوم إلى كثير عناء كي يكتشف حجم الفوضى التي تضرب الجغرافيا السورية، فوضى لا تشبه أيًّا مما عاشه السوريون في السنوات الماضية، بل تبدو كأنها منظومة جديدة لها قواعدها ورعاتها، ومهمتها إعادة تشكيل ملامح المنطقة برمتها. ورغم ذلك، يظهر رئيس هذه السلطة، أحمد الشرع المعروف بأبي محمد الجولاني، ثابت النظرة، واثق الخطاب، يتنقل بين عواصم كانت إلى وقت قريب تتهمه بالإرهاب، في مشهد يُراد له أن يقول: من يسيطر على سوريا اليوم ليس في موقع الدفاع، بل في موقع الشريك سياسي أكبر من حجم البلاد نفسها.

 إعلام يبرر الفوضى.. ويصنع “عبقرية” من الرماد

في موازاة هذا الواقع، تعمل فضائيات عربية معروفة على تجنيد جيوش من المحللين والكتّاب لتفسير هذه الفوضى على أنها جزء من “استراتيجية عميقة” للسلطات السورية الجديدة. يتحول العجز إلى حكمة، والفشل إلى دهاء، والتراجع إلى ذكاء منقطع النظير.

ويُقدَّم الجولاني على أنه الرجل الذي “فتح” أبواب الغرب، بينما يتجاهل هؤلاء أن العواصم نفسها كانت مفتوحة أمام الرئيس السوري السابق بشار الأسد دون أن يقدّم تنازلات وجودية تتعلق بسيادة البلاد أو ارتباطها الإقليمي.

 بين واشنطن والجولاني… تحالف أم وظيفة؟

اللافت أكثر هو الحديث المتكرر عن “احتضان” واشنطن للجولاني. وبغض النظر عن صحة الوقائع المتداولة، فإن الرسالة السياسية التي تتشكل حول هذا الخطاب واضحة:

هناك سلطة في سوريا وظيفتها ليست إدارة دولة، بل تنفيذ مهمة، مهمة لا تتجاوز حدود كونها جزءًا من مشروع أمريكي لإعادة رسم خطوط المنطقة تحت شعار مكافحة الإرهاب.

وفق هذا المنطق، تبدو الخطوات التي تُقدَّم على أنها “تنازلات” مجرد تنفيذ لأوامر مرسومة سلفًا، فمن لا يملك قراره، لا يملك حق التنازل أصلًا.

 زيارة نتنياهو: الاستعراض أم إعلان سيطرة؟

ثم جاءت زيارة بنيامين نتنياهو للمنطقة العازلة جنوبي سوريا، البعض قرأها كاستعراض داخلي لرجل يبحث عن مكاسب سياسية.

لكن القراءة الأعمق تقول إن الزيارة كانت بمثابة إعلان رسمي بأن الجنوب السوري بات جزءًا من الحسابات الأمنية الإسرائيلية المباشرة، بلا وسيط، بلا ردع، وبلا خشية من رد فعل سوري.

فالسلطات السورية التي لا تتردد في استخدام القوة ضد مدنيين في عدة مناطق، بدت عاجزة أمام الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، مكتفية ببيانات إدانة تذكّر أكثر بمدوّنات العلاقات العامة لا بمواقف دول ذات سيادة.

 عندما تتحول السلطة إلى فراغ.. وتتحول الجغرافيا إلى “منطقة مفتوحة”

الواقع أن المشهد السوري الراهن يتجاوز مجرد ضعف السلطة أو محدودية قرارها، المسألة باتت، في جوهرها، تتعلق بنوع السلطة نفسها:

ـ هل هي سلطة حاكمة؟، أم سلطة قائمة بوظيفة ميدانية مؤقتة، تُستخدم لإدارة مرحلة إقليمية مضطربة؟

إن استمرار (إسرائيل) في تثبيت وجودها جنوبي سوريا، مع حديث نتنياهو عن استعداد المهمة العسكرية للتطور “في أي لحظة”، يعني أن الجنوب يُعاد تشكيله وفق رؤية تتجاوز دمشق، وتُرسم إمّا في واشنطن وإما في “تل أبيب”، وما دام الرد السوري غائبًا، فالفراغ يتمدد، ويصبح جزءًا من المعادلة بدل أن يكون خللًا فيها.

 ماذا بعد؟

إذا كانت هذه الفوضى نتيجة ضعف، فالأمل بإعادة التوازن قائم، أما إذا كانت نتيجة وظيفة سياسية، كما تشير السردية المتداولة، فالمشهد أخطر: لأن صاحب الوظيفة لا يملك قرار التغيير، بل ينتظر أوامر تغييره.

المرحلة المقبلة قد لا تكون مجرد استمرار للوضع الراهن، بل ربما تتجه نحو، تعزيز الوجود الإسرائيلي في الجنوب، وضغط متزايد على قوى المقاومة في المنطقة، وتعميق التفكك الجغرافي والسياسي داخل سوريا، وربما رسم حدود جديدة للأمن الإقليمي.

ختاما: لن تكون زيارة نتنياهو مجرد صورة، ولن تكون الفوضى الأمنية مجرد عارض، ما نراه اليوم هو تحوّل عميق في موقع سوريا داخل المعادلات الإقليمية، فبلد كان يردد “نحتفظ بحق الرد”، يعيش اليوم مرحلة لا يجرؤ فيها على مجرد تكرار العبارة.

السؤال الذي يفرض نفسه:

ـ هل ما يجري هو انهيار دولة؟

ـ أم إقامة سلطة جديدة لا تشبه الدول ولا تريد أن تشبهها؟

الأيام المقبلة وحدها ستجيب.. لكنها قطعًا لن تكون أيامًا عادية.

قد يعجبك ايضا