لبنان.. منطقة اقتصادية أم منطقة عازلة؟ قراءة في الطرح الأمريكي الجديد

في تطوّر جديد للمساعي الأميركية الهادفة إلى تعزيز أمن الكيان المؤقّت، جاءت الورقة الأخيرة التي حملها المبعوث الأميركي توم برّاك لتطرح مشروعاً اقتصادياً يحمل بصمة الرئيس دونالد ترامب، المعروف بلقب “رجل الصفقات”. المفاجأة كانت في إدراج بند غير مسبوق يقترح إنشاء “منطقة ترامب الاقتصادية” في أجزاء من جنوب لبنان المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلة، في خطوة توصف بأنها “من خارج الصندوق”.

اللافت أنّ هذا الطرح تزامن مع تبدّل نسبي في المسار الأميركي تجاه لبنان، سواء على مستوى لغة الخطاب أو مضمون الورقة الجديدة. فقد طلبت إدارة ترامب من حكومة الاحتلال تقليص العمليات العسكرية “غير العاجلة” في لبنان لعدة أسابيع، بل والتفكير بالانسحاب من موقع محتل واحد كخطوة أولية لدعم قرار الحكومة اللبنانية ببدء مسار نزع سلاح حزب الله. وبحسب ما كشفه موقع “أكسيوس”، فإن واشنطن تعتقد أنّ تقديم تنازلات “محدودة” من الجانب الإسرائيلي يمنح الحكومة اللبنانية هامشاً أوسع للتحرّك ومصداقية أكبر أمام شعبها. وفي هذا السياق، يجري برّاك مباحثات مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر وبمشاركة الدبلوماسية مورغان أورتاغوس، للبحث في الخطوات الممكنة بالتوازي مع أي تقدّم على خط نزع السلاح. كما أنّ الورقة أشارت إلى موافقة سعودية وقطرية مبدئية على الاستثمار في إعادة إعمار المناطق الحدودية بعد أي انسحاب إسرائيلي.

لكن القراءة المتأنية للمشروع تكشف عدداً من الدلالات:

أولاً، إنّ تحديث ورقة برّاك جاء نتيجة إدراك أميركي لعدم فعالية الطرح السابق، ما دفع واشنطن إلى تبنّي أدوات “جذب” أكثر إغراءً للحكومة اللبنانية. غير أنّ هذا المسار يواجه عقبات جوهرية، إذ عبّرت قيادة الجيش اللبناني بوضوح عن رفضها الدخول في أي مشروع داخلي يهدف إلى نزع سلاح المقاومة تحت شعارات فتنة أو انقسام. وبالتالي، فإن الرهان الأميركي على فرض القرار بالقوة أو بالضغط يظل محفوفاً بالمخاطر.

ثانياً، لا يقتصر الاستهداف على الحكومة اللبنانية، بل يتعداه إلى بيئة المقاومة، خصوصاً أبناء الجنوب الذين دفعوا أثماناً باهظة في الحرب الأخيرة. إذ تحاول الخطة تقديم بديل اقتصادي “مغري” يوحي بأن “منطقة ترامب الاقتصادية” هي الطريق الأمثل لاستعادة الحقوق والأراضي المدمّرة. غير أنّ الهدف الحقيقي يكمن في تقويض صورة المقاومة كسلاح للحماية الشعبية، عبر استبدالها بمشروع اقتصادي يقدَّم بوصفه أكثر نفعاً وجدوى.

ثالثاً، تتضمن الخطة دعوة إلى وقف مؤقت للغارات “غير العاجلة”، مع إمكانية تمديد هذا الوقف إذا ما اتخذ الجيش اللبناني خطوات إضافية ضد حزب الله. لكن الإشكالية هنا تتعلق بمعيار التمييز بين “العاجل” و”غير العاجل”، إذ درج الاحتلال على تبرير كل اعتداءاته باعتبارها “ضرورية” لأمنه، حتى حين يستهدف المدنيين والأطفال. ما يعني أنّ الحديث عن وقف مؤقت ليس سوى ستار لمواصلة العدوان في أي وقت. وبهذا يصبح المشروع بمثابة صيغة مقنّعة لإقامة حزام أمني جديد، مغلّف بعنوان اقتصادي لجعله مقبولاً شعبياً ودولياً، فيما الهدف الأساس هو تأمين المستوطنات في الشمال وإعادة ثقة المستوطنين بحكومتهم.

رابعاً، يفتح المشروع الباب أمام تساؤلات حساسة حول ما إذا كان المستوطنون سيدخلون من شمال فلسطين المحتلة إلى “منطقة ترامب” للتبضّع أو التبادل التجاري، بما يمهّد عملياً لمسار تطبيع اقتصادي تدريجي تحت عنوان “الانفتاح” على الجوار.

خامساً، تتبنى الخطة فرضية أنّ المنطقة الاقتصادية ستجعل من الصعب على حزب الله إعادة تنظيم وجوده العسكري قرب الحدود، وبالتالي فهي تسعى لتأمين الأمن الإسرائيلي بلا حاجة إلى احتلال مباشر. إلا أنّ ذلك يطرح مخاطر أمنية، إذ إن تطبيق مثل هذه الفكرة يستلزم وجود قوة ضابطة على الأرض، وهو ما قد يشير إلى احتمال تغطية وجود أميركي أو حتى إسرائيلي تحت شعار “حماية المنطقة الاقتصادية”.

سادساً، إنّ الحديث الأميركي عن “مصداقية” جديدة للحكومة اللبنانية مشكوك فيه، لأن واشنطن نفسها سبق أن نسفت الضمانات الممنوحة في اتفاقيات سابقة، وأبرزها القرار 1701، فيما يواصل الاحتلال تنفيذ غارات شبه يومية منذ وقف إطلاق النار الأخير. ما يطرح المشروع كطُعم استدراج أكثر منه مبادرة ذات مصداقية.

سابعاً، يروَّج للانسحاب من بعض النقاط الحدودية باعتباره خطوة إيجابية، لكن الوقائع تثبت أنّ الاحتلال يستخدم هذه النقاط للتمدد والانتهاك أكثر مما يستخدمها للانسحاب. وحتى إذا أقدم على خطوة إعلامية محسوبة، فإنها ستبقى جزءاً من عملية مناورة تهدف إلى كسب الوقت وإظهار حسن نية زائف.

ثامناً، الحديث عن إعادة إعمار بتمويل سعودي وقطري يفتقر إلى الواقعية. فالسياسة السعودية الحالية تجاه لبنان تتركز على ممارسة أقصى الضغوط على حزب الله وبيئته، لا على التخفيف عنها. ومن ثم فإن أي وعود بالإعمار تبدو فارغة من مضمونها الفعلي.

تاسعاً، الأهم أنّ المشروع يُقدَّم بواجهة دبلوماسية، لكنه في الجوهر يستهدف شرعية المقاومة وسلاحها. إذ يسعى الأميركي والإسرائيلي إلى تحويل وظيفة الدولة اللبنانية من حماية سيادتها إلى أداة لموازنة النفوذ الداخلي وإضعاف حزب الله. وهو ما يضع لبنان أمام استحقاق صعب: إما الانجرار إلى مشروع أميركي إسرائيلي بغطاء اقتصادي، أو التمسك بمعادلة المقاومة التي أثبتت أنها الضامن الفعلي لأمن الجنوب واستقلال القرار الوطني.

قد يعجبك ايضا