من دمّـر اليمن لا يمكن أن يكون شريكًا في بنائه
جميل المقرمي
في مشهد يمني بالغ التعقيد، وبعد عقدٍ من الحرب والدمار، لا يزال البعض يراهن على الجهات نفسها التي كانت سببًا رئيسيًّا فيما وصلت إليه البلاد من تفكك وانهيار وسقوط لمؤسّسات الدولة. منذ اللحظة الأولى كان واضحًا أن التدخل العسكري الذي قادته السعوديّة والإمارات لم يكن لدعم دولة أَو استعادة شرعية، بل لإعادة تشكيل اليمن وفق مصالح خارجية لا تخدم اليمنيين، وإنما تخدم أطرافًا تبحث عن النفوذ على حساب السيادة.
المدن التي قُصفت، والمرافق التي دمّـرت، والمؤسّسات التي استُهدفت، تؤكّـد أن الهدف لم يكن إنقاذ اليمن، بل شلّ قدراته وتمزيق نسيجه الوطني، وتحويله إلى كانتونات خاضعة وتابعة. ومع ذلك، لم يكن اليمن كله في حالة انهيار، فقد صمدت قوى وطنية تحمّلت مسؤوليتها التاريخية، ورفضت الخضوع للعدوان، وواجهت المشروع التقسيمي الإقليمي بكل وضوح وشجاعة.
هذه القوى التي صمدت عشر سنوات متتالية أصبحت اليوم قوة حقيقية ومتماسكة، تملك قرارها وتعتمد على نفسها، وتحظى بدعم شعبي واسع؛ لأَنَّها لم تراهن إلا على إرادَة الشعب، ولم تتكئ على سفارات ولا طائرات. وفي المقابل، نجد أُولئك الذين اختاروا الارتهان للخارج عاجزين عن فرض سيطرتهم حتى على مديرية واحدة، بل إن مناطقهم تحوّلت إلى ساحات اقتتال داخلي وصراع على المناصب والغنائم.
من يقرأ التجربة بإنصاف سيدرك أن من اعتمد على نفسه نجح، ومن رهن قراره فشل، وأن من بنى من الداخل صمد، ومن انتظر الفرج من الخارج ظل يدور في الفراغ. والتاريخ لا يمكن تزويره، فكل ما حدث خلال السنوات الماضية موثّق بالصوت والصورة: قُصفت المعسكرات، وقُتلت القيادات، ودمّـرت المؤسّسات، ونُهبت الجزر والموانئ، واحتُلّت المطارات، وعبثت السيادة أمام مرأى العالم.
ومع كُـلّ ذلك، لا يزال البعض ينتظر من الجهات التي دمّـرت بلده أن تبنيه من جديد. فهل مَن أسقط دولتك سيبنيها لك؟ وهل مَن دمّـر جيشك سيعيد تشكيله؟ وهل مَن مزّق بلدك سيحرص على وحدته؟ الواقعية تقتضي الاعتراف بأن بوابة السعوديّة والإمارات لم تكن بوابة لبناء وطن، بل للتفكيك والتقسيم والإضعاف، وأن كُـلّ من مرّ عبرها عاد مكسور الظهر فاقد القرار.
اليمن اليوم بحاجة إلى مشروع وطني جامع، لا مكان فيه للتبعية أَو الوصاية، مشروع ينطلق من الداخل، ويجمع كُـلّ القوى الوطنية على أَسَاس الشراكة والمساواة. أمّا الذين يراهنون على الخارج، فعليهم أن يتعلموا من تجربة عشر سنوات، فليس من القيم ولا من الوطنية أن تطلب من الخارج أن يعيد لك وطنًا كان هو أول من دمّـره.
إن من يحكم صنعاء اليوم هم أبناؤها، وليس جنودًا أجانب كما يروّج البعض، وإن المحافظات التي تقع تحت سيطرة الخارج ليست نموذجًا يُحتذى به في السيادة أَو الاستقرار. ومن يريد الحديث عن استعادة الدولة، فليبدأ بالمطالبة بخروج القوات الأجنبية من كُـلّ شبر من أرض اليمن. ومن يريد توحيد الصف، فليبدأ بتوحيد القرار داخل وطنه، لا في الخارج. ومن أراد السلام، فليكن شريكًا في المصالحة الوطنية الحقيقية، لا أدَاة لتنفيذ مشاريع الآخرين.
هذا الحديث موجّه إلى الأطراف التي لا تزال تحلم بالعودة على ظهر دبابة المحتلّ. نقول لهم: كفى عبثًا، فالذي لا يأتي مع العروس لن يأتي مع أمّها. وهي دعوة صادقة لكل من لا يزال يحمل همَّ اليمن أن يضع مصلحة الوطن فوق كُـلّ الحسابات. فمن أراد أن يكون جزءًا من مستقبل هذا البلد، فعليه أن يصارح نفسه أولًا، ثم يصارح شعبه؛ لأَنَّ اليمن يستحق أن يُبنى بإرادَة أبنائه، لا بإملاءات الآخرين.