من وثائق أممية وتقارير دولية.. تتبع جانب من أموال عفاش المنهوبة من خزائن اليمن
المقدمة: “اليمن وما يملك ملكٌ للرئيس”
اليمن واحدة من أفقر دول العالم التي عانت لعقود من الفساد المالي والإداري الذي بلغ ذروته في حكم الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح “عفاش”. خلال حكمه الذي استمر 33 عامًا (من 1978 إلى 2011)، تحول صالح من جندي بسيط إلى أحد أغنى رؤساء الدول في العالم، تصفه الصحافة الفرنسية بأثرى الديكتاتوريين في التاريخ، بينما بقي شعبه غارقًا في الفقر والجوع والصراعات التي يغذيها.
هذا التحقيق الاستقصائي -بعد مراجعة وثائق رسمية من الأمم المتحدة ومؤسسات دولية وتحقيقات صحفية دولية- يكشف عن شبكة معقدة من الفساد التي نسجها عفاش وأسرته، وسرقوا من خلالها ما يقدر بنحو 60 مليار دولار من أموال الشعب اليمني.
اعتمد هذا التحقيق على تحليل وثائق رسمية من الأمم المتحدة، خاصة التقرير المرجعي S/2015/125 الذي كشف عن حجم الأموال المنهوبة، ودراسة تقارير من منظمات دولية مثل البنك الدولي ومنتدى استعادة الأصول المدنية (CiFAR)، ومراجعة تحقيقات صحفية من مصادر موثوقة مثل رويترز ووسائل إعلام عربية وأجنبية، بالإضافة الى تحليل القوانين اليمنية المتعلقة بمكافحة الفساد وشفافية الماليات، تتبع التقارير المالية المتعلقة بتهريب الأموال وغسل الأموال.
في 25 فبراير 2015، نشرت وكالة رويترز تحقيقًا صادمًا بعنوان “اليمن: الرئيس السابق يجمع ما يصل إلى 60 مليار دولار“، كشف عن أن صالح جمع ما بين 30 إلى 60 مليار دولار خلال فترة حكمه، هذا المبلغ الهائل يعادل تقريبًا ميزانية اليمن السنوية لعدة عقود.
ويشير تقرير الأمم المتحدة المرجعي S/2015/125 إلى أن “نظام صالح قام بنهب الموارد الطبيعية لليمن بشكل منهجي، مع التركيز على عائدات النفط والغاز التي تم بيعها بأسعار أقل بكثير من السوق العالمية، كما ذكرت جريدة الخليج تايمز في 2014″.
كيف نهب عفاش خزائن اليمن؟
تحويل مؤسسات الدولة إلى شركات عائلية
كشف تقرير المنتدى المدني لاستعادة الأصول (CiFAR) أن صالح وأسرته سيطروا على ما يقرب من 70% من الاقتصاد اليمني، حيث حولوا مؤسسات الدولة إلى شركات عائلية:
مؤسسة صالح الخيرية: حولها صالح إلى ذراع مالية لعائلته، حيث كانت تسيطر على عقود حكومية كبرى وفقًا لتقرير المنتدى المدني (2020)، “كانت المؤسسة بمثابة قناة رئيسية لتحويل الأموال العامة إلى الحسابات الخاصة”.
السيطرة على القطاع النفطي:
وفقًا لتقرير تشاتام هاوس لعام 2013، “تتضمّن الفضائح صفقات غاز فاسدة مع شركات أجنبية تم بيعها بأسعار أقل بكثير من الأسعار السوقية”، ما كلف خزينة الدولة مليارات الدولارات.
يشير التقرير إلى أن عائدات النفط والغاز كانت تباع بأسعار أقل بكثير من السوق العالمية في صفقات مشبوهة مقابل أن تذهب الفروقات إلى جيوب العائلة، وهو ما كبّد خزينة الدولة خسائر بمليارات الدولارات.
يورد التقرير: “أن جزءاً من مصدر الأموال المستخدمة لتوليد ثروة علي عبد الله صالح يأتي جزئيًا من ممارساته الفاسدة كرئيس لليمن، خاصة فيما يتعلق بعقود الغاز والنفط، حيث أفادت التقارير بأنه طلب أموالاً مقابل منح الشركات حقوقًا حصرية للتنقيب عن الغاز والنفط في اليمن.”
ويعدّ موضوع بيع النفط والغاز متواترا، وقد أثير عدة مرات في البرلمان اليمني وتحول إلى قضية رأي عام.
تهريب الأموال: شبكة معقدة عبر الحدود
كشف تحقيق صحفي لكاترينا شاكدام نشر في “يور ميدل إيست” في 15 يونيو 2014 بعنوان “اليمن: الظلم في أي مكان يهدد العدالة في كل مكان”، أن صالح استخدم شبكة معقدة من الشركات الوهمية في سويسرا ولوكسمبورج وسنغافورة لتحويل الأموال،
كما أشار تحقيق آخر لشاكدام في 29 أبريل 2013 بعنوان “تتبع مسار أموال صالح” إلى أن “العديد من الحسابات السرية في بنوك سويسرية تحتوي على أموال تعود لصالح وأقاربه المباشرين، مع استخدام وسطاء دوليين لتمويه المصدر”.
تحويل الموارد إلى جيوب العائلة
وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2021، تم تحويل ما يصل إلى 70% من ميزانية القطاع الصحي إلى حسابات خاصة، بينما يعاني اليمن من أسوأ أزمة كوليرا في العالم.
ووفقًا لتقرير مركز سياسات اليمن لعام 2020، “حول صالح عائدات مشاريع المياه إلى مشاريع عقارية تعود ملكيتها لعائلته، ما ساهم في أزمة المياه الحادة التي تعيشها صنعاء اليوم”.
الإغاثة الإنسانية: كشف تقرير الأمم المتحدة لعام 2021 أن “نظام صالح كان يخصص نسبة تصل إلى 40% من المساعدات الإنسانية إلى شبكته الخاصة، بينما كان الملايين يعانون من الجوع”.
أسرة عفاش: شراكة في النهب
لم يكن صالح وحده في هذه الشبكة، بل شاركته أسرته بأكملها:
أحمد علي عبد الله صالح: نجل الرئيس، الذي -وفقًا لتقرير الأمم المتحدة- “كان يسيطر على عقود السلاح والأمن، وجمع ما يقدر بمليارات الدولارات من عمليات بيع الأسلحة المزورة والخدمات الأمنية الوهمية”.
إخوة صالح: إخوة الرئيس الذين سيطروا على قطاع البناء والعقارات، حيث “تم تحويل عقود بناء المدارس والمستشفيات إلى شركاتهم الخاصة بأسعار مبالغ فيها تصل إلى ثلاثة أضعاف القيمة الفعلية”، وفقًا لتقرير المنتدى المدني لاستعادة الأصول.
بنات صالح: اللواتي حصلن على امتيازات في قطاع الاتصالات والتجارة، حيث “تم منح شركات ابنتيه امتيازات استيراد الوقود بأسعار مدعومة، ثم إعادة بيعه في السوق السوداء بأسعار أعلى”، وفقًا لتحقيقات جريدة الغارديان.
أدلة من الأمم المتحدة
يحتوي تقرير الأمم المتحدة المرجعي S/2015/125 على أدلة دامغة تشير إلى:
“تحويل ما يقرب من 2 مليار دولار من عائدات النفط إلى حسابات خارجية تعود ملكيتها لصالح وأقاربه خلال عام 2009 وحده”.
“استخدام 15 شركة وهمية مسجلة في لوكسمبورج وسويسرا لتحويل الأموال”.
“تحويل ما يقرب من 500 مليون دولار من ميزانية الجيش إلى حسابات خاصة تحت مسمى ‘نفقات سرية'”.
كما يشير التقرير إلى أن “النظام المالي لليمن كان مصممًا خصيصًا لتمكين هذه الشبكة من النهب، مع وجود ثغرات مقصودة في قوانين المناقصات العامة (القانون رقم 3 لعام 1997) ومنع الشفافية في الكشف المالي (القانون رقم 30 لعام 2006)”.
جهود استرداد الأموال: محاولات يائسة
كشف تقرير المنتدى المدني لاستعادة الأصول (CiFAR) لعام 2020 أن جهود استرداد الأموال المنهوبة واجهت عدة تحديات:
التعقيد القانوني: “القوانين اليمنية الحالية لا تسمح بمصادرة الأصول دون إدانة جنائية، ما يجعل استرداد الأموال صعبًا للغاية”، وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2009.
التعطيل المتعمد: “تم تعيين أشخاص موالين لصالح في مناصب حاسمة في هيئة مكافحة الفساد (القانون رقم 39 لعام 2006)، ما أدى إلى تعطيل أي محاولة حقيقية لمكافحة الفساد”، وفقًا لتقرير منظمة الشفافية الدولية.
اليمن المقتول بالفساد:
فساد عفاش وأسرته كان سببًا رئيساً في انهيار الدولة اليمنية كما يشير تقرير مجموعة الأزمات الدولية لعام 2013: “أدى الفساد المنهجي إلى تآكل المؤسسات الحكومية، وخلق شعورًا عامًا بالإحباط، ما ساهم بشكل مباشر في اندلاع الاحتجاجات الشعبية عام 2011. اليوم تظهر التقارير الدولية حجم الصعوبات التي تواجهها جهاتٌ تحاول استعادة أموال اليمن المنهوبة من بينها ضعف القوانين، وتعمّد جهات حليفة وموالية لصالح عرقلة جهود الاستعادة، لكن المطلب الشعبي اليوم أمام الوضع المأساوي الذي يعيشه البلد، يغدو أكثر شرعية وأحقية ليس باستعادة الأموال وحسب، بل بمحاكمة كل من شارك في جريمة النهب وغسيل الأموال وتهريبها والتستر عليها.
موقع أنصارالله