هل تحمل (إسرائيل) في جيبك؟ الهواتف الذكية.. بوابة مفتوحة للتجسس الإسرائيلي فكن حذراً
متابعات ـ جميل الحاج
في زمنٍ تحوّلت فيه الهواتف الذكية من مجرد وسيلة اتصال إلى مخزن شامل لكل تفاصيل الحياة الشخصية، تبدو الجملة التي أطلقها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو – “أنتم تحملون قطعةً من إسرائيل بين أيديكم” – أقل شبهاً بالمزحة وأكثر شبهاً بالتحذير أو التفاخر.
فالهاتف لم يعد جهازاً عادياً؛ إنه بصمة رقمية متكاملة تكشف صورك ورسائلك وموقعك الجغرافي وقوائم معارفك، ما جعله هدفاً مركزياً لأجهزة الاستخبارات حول العالم، وعلى رأسها الاستخبارات الإسرائيلية.
تسوّق “إسرائيل” نفسها منذ سنوات بوصفها “أمة الشركات الناشئة”، وتتباهى بتصدير تطبيقات وخدمات غيرت حياة البشر، لكن الوجه الآخر لهذه القصة أكثر قتامة. فمعظم الابتكارات التقنية الإسرائيلية خرجت من رحم وحدات الاستخبارات العسكرية، وعلى رأسها وحدة 8200 المتخصصة في التنصت والاختراق وتحليل البيانات الضخمة.
آلاف الجنود يتلقّون تدريباً عسكرياً تقنياً، ثم ينتقلون إلى تأسيس شركات خاصة في الأمن السيبراني والتطبيقات الذكية، ما يحوّل المهارات العسكرية إلى منتجات مدنية تحمل DNA استخباراتي أصيل.
أمثلة ذلك كثيرة: شركة NSO Group وبرمجيتها الشهيرة “بيغاسوس” التي حوّلت أي هاتف إلى ساحة تجسس، أو IronSource التي أدخلت تطبيقاتها المثيرة للجدل إلى ملايين هواتف “سامسونغ” في الشرق الأوسط. هكذا يصبح الخط الفاصل بين المدني والعسكري شبه معدوم، وتتحول التطبيقات “البريئة” إلى أدوات مراقبة عالمية.
لم يعد التجسس الإسرائيلي يعتمد على اعتراض المكالمات التقليدية أو التنصت على خطوط الهاتف، بل انتقل إلى مستوى أعمق: استغلال التطبيقات المحمولة التي يحمّلها المستخدمون طوعاً من متاجر Google Play وApp Store.
التطبيقات الأكثر خطراً هي تلك التي تُسوّق باعتبارها “خدمات مدنية مفيدة” مثل دليل الهاتف وكشف هوية المتصل، لكنها عملياً تخلق قاعدة بيانات عالمية للأرقام والأسماء والعلاقات الاجتماعية.
تطبيق Truecaller، على سبيل المثال، يطلب صلاحيات واسعة للوصول إلى دليل الهاتف وسجلات المكالمات، ثم يرفع جهات الاتصال كلها إلى خوادمه السحابية.
النتيجة: مليارات من البيانات الشخصية تتجمع في خادم واحد، يمكن لأي جهة ذات نفوذ أن تصل إليها. مركز “حملة” الحقوقي الفلسطيني وصف هذه الآلية بأنها “انتهاك صريح للخصوصية”، إذ يمنح المستخدم التطبيق صلاحيات غير محدودة دون أن يدرك الثمن الخفي.
CallApp: تطبيق إسرائيلي يجمع بيانات مليار هاتف من أكثر من 60 مصدرًا. حذّرت المديرية العامة لأمن الدولة في لبنان عام 2021 من استخدامه بسبب شبهات أمنية، كما حظّرته كوريا الجنوبية لانتهاكه قوانين الخصوصية.
Sync.ME: تطبيق إسرائيلي آخر يدمج معلومات الاتصال بالشبكات الاجتماعية ويشترط رفع الأسماء والأرقام لخوادمه في (إسرائيل).
GetContact وNumberBook وMe: تطبيقات غير إسرائيلية المنشأ لكنها تستخدم نفس المبدأ، ما يجعل بيانات ملايين المستخدمين عرضة للاختراق أو التسريب، كما حدث في تسريب GetContact عام 2019.
هذه التطبيقات وغيرها مثل CIA Caller ID وDalily وWhoscall تعني أن قوائم الاتصال الخاصة بملايين العرب، قد تكون مخزّنة في خوادم خارجية مجهولة الوجهة.
قاعدة بيانات اجتماعية بيد الاحتلال
خطر هذه التطبيقات لا يكمن فقط في مركزية البيانات بل أيضاً في إمكانية استخدامها الاستخباراتية. فامتلاك قاعدة بيانات مثل Truecaller يتيح رسم شبكات المعارف لأي شخص، وتحديد انتماءاته أو حتى دوره التنظيمي، دون الحاجة لاختراق هاتفه مباشرة.
في السياق الفلسطيني والعربي، تتحول هذه البيانات إلى أداة استهداف، الاحتلال الإسرائيلي يدير منذ سنوات منظومة مراقبة جماعية لسكان غزة والضفة، تجمع البيانات الشخصية بشكل ممنهج لتغذي أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة تساعد في تحديد الأهداف وتصنيف الأفراد.
أي قاعدة بيانات لأرقام وأسماء الأشخاص – من Truecaller إلى Sync.ME أو حتى تطبيقات الصور مثل FaceTune – تصبح ذات قيمة استخباراتية. بيانات الصور تُستخدم لتدريب خوارزميات التعرف على الوجوه، وبيانات دليل الهاتف تُستخدم لبناء شبكة معارف الهدف. بل يمكن للاحتلال نفسه أن يطور تطبيقاً شبيهاً بتروكولر ويوزعه عبر إعلانات مغرية، فيسلم المستخدمون بياناتهم طوعاً.
أمثلة على ذلك موجودة: في 2018 اكتُشف تطبيق دردشة مزيف على Google Play يستهدف الفلسطينيين ويحتوي برمجية تجسس متقدمة، وفي حرب غزة الأخيرة 2023 استُخدم نظام “Lavender” لتحليل كميات هائلة من البيانات وتوليد قوائم أهداف للاغتيال أو التدمير.
منذ أن قدّمت شركة “ميرابيلس” الإسرائيلية برنامج الدردشة “ICQ” في التسعينيات، مروراً بتطبيقات مثل “Waze” و“Viber” و“Moovit” و“FaceTune”، وصولاً إلى استحواذ “أبل” على شركات إسرائيلية طوّرت تقنيات الكاميرات والتعرف على الوجه، زرعت “إسرائيل” نفسها في صميم الهواتف الذكية. كاميرا “آيفون” التي تلتقط صورك، ومستشعر “Face ID” الذي يفتح هاتفك، وتقنيات التخزين التي تحفظ ملفاتك – جميعها تحمل بصمة إسرائيلية بطريقة أو بأخرى.
حتى “فيسبوك” اعتمدت على شركة “Onavo” الإسرائيلية لمراقبة استهلاك البيانات، فيما تحتفظ مراكز تطوير “إنتل” في (إسرائيل) بمفاتيح تقنيات الاتصال المتقدمة. كل هذا يجعل جملة نتنياهو أقرب إلى الحقيقة: “إسرائيل في جيبك، في يدك، وفي حياتك اليومية”.
قطاع التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلي يشكّل أكثر من 15% من الناتج المحلي ويُباع بمليارات الدولارات لشركات عالمية، ما يمنح “تل أبيب” نفوذاً سياسياً واستراتيجياً. لكن الوجه الآخر لهذا النفوذ هو برامج التجسس التي تجاوزت “بيغاسوس” إلى أدوات تخترق حتى تطبيقات مشفرة مثل “سيغنال” و“تلغرام”.
فضيحة IronSource مع “سامسونغ” عام 2024 أظهرت أن شركة إسرائيلية يمكنها التسلل إلى هواتف الملايين عبر تطبيق مثبت مسبقاً يجمع البيانات الشخصية ولا يمكن حذفه بسهولة. إنها ليست مجرد شراكة تجارية؛ إنها جزء من استراتيجية سيطرة على الفضاء السيبراني بوصفه ميدان حرب غير مرئية.
الذكاء الاصطناعي الذي يكشف التطبيقات الخبيثة يمكن أن يُستخدم لتطوير تطبيقات تجسس أكثر ذكاءً. والكود الذي يحمي بياناتك قد يُستغل لاختراقها. في عصر أصبحت فيه الهواتف الذكية ملفات أمنية متنقلة، لم يعد الوعي بالخصوصية ترفاً بل ضرورة وجودية.
التطبيق الذي تستخدمه لمعرفة اسم المتصل قد يمنح اسمك وكل معارفك لجهة مجهولة. وكما تقول القاعدة الشهيرة: “إذا كنت لا تدفع ثمن المنتج، فاعلم أنك أنت المنتج”.
هذا هو جوهر القصة: (إسرائيل) لم تزرع نفسها في الهواتف فجأة، بل منذ التسعينيات. اليوم تحصد نفوذاً غير مسبوق في كل صورة تلتقطها وكل رسالة ترسلها. ما يعرفه نتنياهو ويفتخر به هو أن هذه القطعة الصغيرة في يدك قد تكون عيناً خفية تراقبك بقدر ما هي عدسة تلتقط صورك.