للتأريخ: سردية “احتلال إيران للعراق” وأسطوانة “صدام أسد السنّة” و “حارس البوابة الشرقية” — قراءة في التزييف المزدوج
للتأريخ: سردية “احتلال إيران للعراق” وأسطوانة “صدام أسد السنّة” و “حارس البوابة الشرقية” — قراءة في التزييف المزدوج
الحقيقة /كتب/ د . حزام الأسد
في كل مرة يعبّر فيها العراق – شعبًا أو دولة – عن موقف مساند لفلسطين أو مناهض للهيمنة الأمريكية، تعود إلى الواجهة أسطوانة مشروخة يرددها الإعلام السعودي وأذرعه الإخوانية والسلفية: “العراق محتل من إيران”، و”صدام حسين كان أسد السنّة”، و”الفرس غزوا العواصم العربية”.
هذه الادعاءات المتكررة ليست سوى محاولة بائسة لإخفاء تورط السعودية وبعض دول الخليج في تمزيق العراق، وتحويل أنظار الأمة عن الاحتلال الأمريكي الحقيقي للعراق، وعن من سلّم بلاد الرافدين إلى الفوضى، ونهب ثرواتها، وفكك نسيجها الاجتماعي، كما يهدف هذا التدليس الى حرف بوصلة العداء العربي الإسلامي للصهاينة باتجاه الداخل الإسلامي سواء باتجاه إيران أو وأي دولة او شعب أو فصيل يساند القضية الفلسطينية.
في هذا المقال، نعود خطوة بخطوة لتفنيد هذا التزييف المزدوج، عبر تسلسل زمني يوثّق الحقائق ويفضح الخرافات.
أولًا: حرب الخليج الأولى (1980–1988) — صدام يحارب إيران نيابةً عن الغرب
في 22 سبتمبر 1980، شنّ صدام حسين هجوماً واسعاً على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بعد عامٍ واحد فقط من انتصار الثورة الإيرانية، وإعلان النظام الإسلامي الجديد عداءه لأمريكا، وتحويل السفارة الإسرائيلية في طهران إلى سفارة لفلسطين، ودعوته جميع الأنظمة والحكومات إلى التخلص من التبعية لأمريكا ودعم القضية الفلسطينية.
استمرت الحرب ثماني سنوات، وأسفرت عن أكثر من مليون قتيل من الجانبين، ودمار شامل في البُنى التحتية والاقتصادين الإيراني والعراقي.
تمويل سعودي: السعودية قدّمت أكثر من 30 مليار دولار لصدام حسين، كما اعترف بذلك وزير المالية السعودي الأسبق محمد أبا الخيل (تصريح موثّق في أرشيف واشنطن بوست، 1991).
دعم أمريكي: كشفت وثائق رُفعت عنها السرية أن الولايات المتحدة هي من أعطت الضوء الأخضر لصدام لغزو الأراضي الإيرانية، وإعلانه التراجع عن اتفاقية الجزائر الخاصة بترسيم شط العرب الموقعة عام 1975، وهي من زوّدت بغداد بمعلومات استخبارية، وساعدت في تأمين الأسلحة الكيميائية التي استخدمها ضد القوات الإيرانية.
ومع نهاية الحرب، اعترف صدام في خطاب رسمي عام 1991 قائلًا: “كنا نحن البادئين في الحرب مع إيران”.
اعتراف موثّق بثّه التلفزيون العراقي حينها، يكشف أنه لم يكن سوى أداة لمخططات الغرب والخليج.
ثانيًا: حرب الخليج الثانية (1990–1991) — من “حارس البوابة الشرقية” إلى غازي الكويت وقاصف السعودية
في فجر 2 أغسطس 1990، اجتاحت القوات العراقية الكويت خلال ساعات، وارتكبت فيها فظائع بحق المدنيين والممتلكات.
أرقام رسمية: تشير إحصائيات وزارة الصحة الكويتية إلى مقتل أكثر من 1,000 مدني كويتي، وتهجير عشرات الآلاف، واحتجاز آلاف آخرين.
وفي يناير 1991، هاجمت القوات العراقية مدينة الخفجي السعودية واحتلتها مؤقتًا، مما أدخل الرياض في حالة ذعر واستغاثة بالقوات الأمريكية والغربية.
ثالثًا: الانهيار والغزو الأمريكي (2003) — من دمّر العراق؟
في 20 مارس 2003، شنّت الولايات المتحدة غزوا شاملًا للعراق، بجيش قوامه أكثر من 130,000 جندي أمريكي، بدعم من أكثر من 25 دولة، من بينها بريطانيا وكندا وأستراليا والسعودية والكويت وقطر والإمارات، تحت ذريعة امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل لم تُثبت أبدًا. لم تشارك إيران في غزو العراق وكان موقفها واضح في رفض التدخل والتواجد الأمريكي في العراق والمنطقة.
بول بريمر، الحاكم الأمريكي للعراق (2003–2004)، أعلن في كتابه عامي في العراق (My Year in Iraq):
“تم تفكيك الجيش العراقي القديم وفق توجيهات القيادة الأمريكية، وبالتنسيق مع الحلفاء في السعودية، وأُعيد تشكيل النظام السياسي من الصفر على أساس طائفي لتسهيل التحكم به.”
تفكيك الدولة: تم حلّ الجيش، والشرطة، ومؤسسات الدولة، وشُكّل “مجلس الحكم الانتقالي” بتقسيمات طائفية وعرقية منحازة، رسم ملامحها فريق بريمر بالتنسيق بين واشنطن والرياض، لا مع طهران.
رابعًا: صدام — ديكتاتور علماني لا سنّي ولا إسلامي
الصورة التي يُراد تصديرها اليوم عن صدام بوصفه “أسد السنّة”، لا علاقة لها بالواقع.
لطالما حاول البعض تصوير نظام صدام حسين على أنه الحامي للسنة والعروبة، بينما واقع الأمر كان مختلفاً تماماً.
فلم يكن صدام سوى ديكتاتور علماني قمعي، استهدف وبوحشية كل الأطياف والطوائف العراقية بلا استثناء، سواء كانوا سنّة، أو شيعة، أو أكراد، أو إخوان تماما كما استهدف الإيرانيين والكويتيين والسعوديين وغيرهم.
حكمه اتسم بالعنف المفرط، والتنكيل بالمناطق المعارضة، والاعتقالات الواسعة، والقتل الجماعي، في محاولة لإخماد كل صوت معارض مهما كان انتماؤه.
من أبرز المجازر والقتل الجماعي التي نفّذها نظامه:
مجازر الأكراد السنّة (1986–1989):
نفّذ صدام حملة الأنفال، التي تم خلالها تدمير أكثر من 4,000 قرية كردية، مع استخدام الأسلحة الكيميائية في مجزرة حلبجة (مارس 1988) التي قضت على آلاف المدنيين، وبلغ عدد القتلى ما بين 50,000 إلى 182,000 كردي.
قمع الشيعة في الجنوب (1991):
بعد انتفاضة شعبية في أعقاب حرب الخليج الثانية، شن النظام حملة وحشية على مناطق الجنوب الشيعية مثل الناصرية والبصرة والنجف، حيث قُتل ما يُقدّر بين 30,000 إلى 100,000 مدني، إضافة إلى اعتقالات وتعذيب ممنهج للعلماء والدعاة الشيعة، مثل السيد محمد باقر الصدر الذي أُعدم عام 1980.
قمع السنّة العرب والمعارضة السنّية:
لم يكن صدام رحيمًا حتى مع السنّة، خاصة في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات.
ففي أعقاب هزيمة العراق في حرب الخليج الثانية، شهدت الأنبار انتفاضة شعبية ضد النظام استمرت عدة أشهر في ربيع وصيف 1991.
قُصفت المناطق السنّية بشكل مكثف، ونُفّذت عمليات اعتقال وإعدام جماعية، قُدّر ضحاياها بـ10,000 إلى 25,000 شخص، بينهم مئات من شيوخ القبائل والمعارضين، مثل الشيخ ناصر العاني، الذي اعتُقل عام 1991 وتوفي في السجن تحت التعذيب.
قمع جماعة الإخوان المسلمين:
مارس نظام صدام أبشع أساليب القمع ضد جماعة الإخوان، خاصة في الثمانينيات:
الشيخ عبد الله جواد، تُوفي تحت التعذيب في سجن أبو غريب (1979).
الشيخ محمد داود السلمان، أُعدم (1983).
الدكتور إسماعيل الخالدي، تُوفي تحت التعذيب.
عشرات القيادات الطلابية أُعدموا جماعيًا.
المئات من كوادر الجماعة فرت من التنكيل وظلت في المنافي، وتعرض بعضها للملاحقات والاغتيال حتى في الخارج.
كما أصدر مرسوم عام 1985 يُصنّف الانتماء لجماعة الإخوان “خيانة عظمى” عقوبتها الإعدام.
المفارقة: شيوخ السلفية أنفسهم كفّروا صدام وحزبه، ولم يصفوه بأسد السنّة ولا بقاهر المجوس!
عبد العزيز بن باز، في فتوى منشورة على موقع “اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء”:
“حزب البعث حزب كافر، وصدام طاغوت لا تجوز مناصرته ولا القتال تحت رايته.”
مقبل الوادعي، شيخ وهابية اليمن:
“صدام كافر، لا يجوز القتال تحت رايته، ولا مناصرته ولو ضد الأمريكان.”
ربيع المدخلي، في كتابه “صد عدوان الملحدين وحكم الاستعانة على قتالهم بغير المسلمين”
الذي أفتى بإلحاد وكفر صدام وجواز الاستعانة بالقوات الأمريكية لغزو العراق واسقاط حكمه.
خامسًا: قصف تل أبيب — والبحث عن نجاة
من أشهر محاولات تلميع صدام، الحديث عن قصفه لتل أبيب بـ39 صاروخ سكود خلال حرب الخليج الثانية.
لكن الحقيقة أن هذه الصواريخ أُطلقت بعد تدمير جيشه في الكويت، وبدون تنسيق مع أي فصيل مقاوم فلسطيني، ولم تكن حينها أي جبهة مشتعلة في فلسطين.
النتيجة:
لم تُسفر عن خسائر تُذكر، وأُجبر العراق على دفع أكثر من 60 مليون دولار كتعويضات لإسرائيل، بحسب تقارير “لجنة الأمم المتحدة للتعويضات”.
سادسًا: داعش وتحرير الموصل — من حارب الإرهاب؟
في 2014، اجتاح تنظيم داعش ثلث مساحة العراق، وسيطر على الموصل وتكريت والأنبار، بدعم وتسهيلات مشبوهة من شبكات على صلة بأمريكا والسعودية وتركيا وقطر، فيما اكتفت القوات الأمريكية بالمراقبة بل والدعم بالإنزال الجوي لتنظيم داعش.
وقتها وجد الشعب العراقي نفسه وحيدا وفي مواجهة مباشرة مع الارهاب المصنوع أمريكيا والممول خليجيا وحينها أصدر المرجع الشيعي السيد علي السيستاني فتوى الجهاد الكفائي، ليهب شباب العراق للدفاع عن مدنهم وقراهم وتحرير بلدهم، كما ساندت إيران العراق عسكريا خاصة في المجال الاستشاري واللوجستي والمعلوماتي بطلب رسمي من الحكومة العراقية.
بينما طائرات التحالف الأمريكي كانت تلقي المؤن العسكرية والتموينية على مناطق داعش، كما وثّقت قناة RT وتقارير حكومية عراقية، واعترفت أمريكا على أنها “أخطاء غير مقصودة”!
سابعًا: إيران لا تحتل العراق… من يحتله إذا؟
إيران لا تملك قواعد عسكرية في العراق.
لا تسيطر على الموانئ، ولا على النفط، ولا على الأجواء.
وما يجمع الشعبين الجارين هي العلاقات الأخوية والندية الدبلوماسية والقواسم الدينية والتأريخية والاجتماعية والمصير المشترك.
بينما الولايات المتحدة التي تبعد عن العراق أكثر من 10 ألاف ميل تمتلك داخل العراق أكثر من 8 قواعد عسكرية معلنة، أبرزها: “عين الأسد” و”حرير” في أربيل، وترفض الانسحاب رغم تصويت البرلمان العراقي في يناير 2020 على طرد القوات الأجنبية.
كما تمارس السيطرة على الكثير من الموارد السيادية للبلاد وخاصة النفط عبر الشركات العاملة، ودائما ما تحشر أنفها وتتدخل في الشؤون الداخلية للعراق وفي علاقاته الإقليمية والدولية وتمارس الضغوط والابتزاز في ذلك.
الختام: التزييف المزدوج
السردية التي تتهم إيران بـ”احتلال العراق” تظهر فقط عندما يتبنّى العراق دعم فلسطين أو مساندة غزة، أو عندما يعبر عن رفضه للتطبيع.
تماما كما يردد الإعلام المتصهين بأن “إيران تحتل خمس عواصم عربية” لقمع وإرهاب أي دولة أو شعب أو فصيل عربي يناصر فلسطين ويرفض التطبيع.
الحقيقة: من سلّم العراق للفوضى، وموّل الغزو، وقسّم الدولة طائفيًا، هو التحالف الأمريكي البريطاني السعودي.
ومن يهاجم طهران اليوم، ليس حبا في بغداد، بل نكايةً في كل موقف عربي حرّ يرفض أن يركع لـ”تل أبيب” أو ينصاع لـ”واشنطن”.
وإذا كان من سؤال صادق:
من يحتل العراق؟
فليُطرح على من بنى فيه قواعد عسكرية، وأنشأ فيه داعش وقبلها القاعدة، ونهب نفطه، وأدخل شركاته لخصخصة الدولة، ثم جلس يتهم الآخرين… فقط لمجرّد دعمهم لفلسطين