الاحتلال الفرنسي للجزائر والمغرب: تاريخ من الإبادة والعنف والاستيطان
جرائم الاحتلال الفرنسي في الجزائر والمغرب: ذاكرة جراح مفتوحة
النهب والتنكيل والإبادة: الوجه المظلم للاحتلال الفرنسي في المغرب العربي
الحقيقة ـ جميل الحاج
لم يكن دخول القوات الفرنسية إلى الجزائر سنة 1830، ولا احتلالها للمغرب لاحقًا في مطلع القرن العشرين، حدثًا عابرًا في تاريخ شمال إفريقيا، فقد شكّل مشروعًا استعماريًا واسعًا، اتّسم بطبيعة استيطانية عنيفة، وبممارسات ممنهجة ألحقت بالشعوب الأصيلة جراحًا إنسانية وديمغرافية وثقافية ما زالت آثارها ممتدّة إلى اليوم.
وخلال ثلاثة عقود فقط من بداية الغزو الفرنسي للجزائر، اندمجت الحرب والمجاعة والأوبئة في مسار واحد أودى بحياة ما يُقدّر بثلاثة أرباع السكان الأصليين تقريبًا، إذ انخفض عددهم من نحو ثلاثة ملايين إلى ما بين نصف مليون ومليون فقط.
ولم يكن المغرب بعيدًا عن هذه التجربة؛ فبين 1907 و1956، تكشّفت فصول من العنف المنظّم، والتنكيل الواسع، ونهب الثروات، والاعتداء على الكرامة، والقمع الدموي للانتفاضات الشعبية، وهو ما شكّل خلفية مريرة لواحدة من أطول التجارب الاستعمارية قسوة في المنطقة.
هذا التقرير يفتح ملف “جرائم فرنسا في إفريقيا”، ويرصد أبرز ملامح الاستعمار في الجزائر والمغرب، بين الإبادة والإخضاع ونهب الثروات وتدمير الهوية.
قصف الدار البيضاء 1907: بداية العاصفة
قبل فرض الحماية الفرنسية رسميًا سنة 1912، شهد المغرب واحدة من أعنف العمليات العسكرية التي نفذتها البحرية الفرنسية ضد مدينة مأهولة، ففي أغسطس 1907، قُصفت الدار البيضاء لمدة يومين متواصلين، احتجاجًا على انتفاضة السكان ضد مشروع مدّ سكة حديدية فوق مقبرة سيدي بليوط.
أسفر القصف عن مقتل ما بين 600 و1500 مغربي، وتحولت المدينة إلى أنقاض وجثث متناثرة، فيما واصل الأسطول الفرنسي نهبه وإحراقه للبيوت والدكاكين.
الحماية الفرنسية 1912: تفكيك البلاد والسيطرة على القلب
جاءت معاهدة فاس في مارس 1912 لتكرّس السيطرة الفرنسية على المنطقة الوسطى من المغرب، مقابل سيطرة إسبانيا على الشمال والجنوب، بينما وضعت طنجة تحت نظام دولي معقّد.
استغلت فرنسا اضطرابات داخلية وثورات قبلية ضد السلطان عبد الحفيظ، لتدخل العاصمة فاس بقواتها، وتعلن رسميًا بداية عهد الحماية، الذي استمر حتى 1956.
قمع المقاومة والمظاهرات
طوال عقود الحماية، استخدمت فرنسا جميع أشكال القمع، من تدمير قرى وقبائل بأكملها في الريف والأطلس، مثل زيان وبني خيران والسماعلة، وقتل المقاومين ورجال القبائل دون تمييز، بالإضافة إلى قمع تظاهرات 29 يناير 1944 المطالِبة بالاستقلال بالرصاص الحي، وسقوط عشرات الشهداء.
ـ مجزرة الدار البيضاء 7 أبريل 1947 التي راح ضحيتها المئات في أحياء ابن مسيك وكراج علال ومديونة.
ـ مجازر 16–17 أغسطس 1953 في وجدة وبركان التي قُتل فيها أكثر من ألف متظاهر.
ـ مجزرة وادي زم 19 أغسطس 1955 التي تعدّ من أبشع الجرائم، حيث قضى آلاف المحتجين.
استخدام المغاربة دروعًا بشرية في الحروب الأوروبية
لم تكتف فرنسا بقتل المغاربة على أرضهم، بل دفعتهم أيضًا إلى خوض حروب لا علاقة لهم بها.
فقد جنّدت فرنسا، 40 إلى 45 ألف جندي مغربي في الحرب العالمية الأولى، وزُجّ بالجنود في الصفوف الأمامية، فكان عدد القتلى والجرحى يقارب 12 ألفًا، كما شارك عشرات الآلاف أيضًا في الحرب العالمية الثانية، وسقط كثيرون منهم في معارك إيطاليا ومارسيليا.
مارست فرنسا خلال وجودها، النهب المنظم للأراضي الزراعية والثروات المعدنية، ونفذت اعتقالات وتعذيبًا وإعدامات بحق رجال المقاومة، ومارست سياسة التفرقة بين العرب والأمازيغ بإصدار الظهير البربري (1930) الذي فُرض لقطع ارتباط الأمازيغ بالشريعة الإسلامية والعربية، وإنشاء مدارس خاصة لتكوين نخبة “بربرية فرنكفونية”، بهدف صناعة انقسام دائم في المجتمع المغربي، وقد خلّفت هذه السياسات هشاشة اجتماعية وأضرارًا ثقافية عميقة ما تزال موضوعًا لبحوث تاريخية وسياسية مستمرة.
إذا كان الاستعمار الفرنسي في المغرب قائمًا على السيطرة والنهب، فإن استعمار الجزائر تجاوز ذلك نحو مشروع إبادة واستيطان إحلالي يصفه مؤرخون كثر بأنه حالة نموذجية في التاريخ العالمي.
كان غزو الجزائر في 5 يوليو 1830 أول محاولة في التاريخ الحديث تستعمر فيها قوة أوروبية بلدًا جارًا بطريقة استيطانية واسعة، ولذلك اعتبر المؤرخون التجربة الجزائرية حالة فريدة لأسباب عدة:
استعمار مسيحي استيطاني مباشر لبلد مسلم مجاور.
تدخل الدولة الفرنسية رسميًا لحماية المستوطنين الأوروبيين.
محاولة إحلال جماعة جديدة مكان السكان الأصليين.
فشلت فرنسا رغم وحشية الاستعمار في تحقيق “الإبادة الكاملة” أو التهميش الديمغرافي التام للجزائريين، وانخفاض عدد السكان من حوالي 3 ملايين إلى 500 ألف – مليون فقط، وهو ما يؤكد الطابع الإبادي لممارسات الجيش الفرنسي.
وصادرت فرنسا أكثر من 5 ملايين هكتار من أفضل الأراضي الخصبة في مناطق التلّ، ونزعت ملكيتها من أصحابها الأصليين، ووضعتها في يد المستوطنين الأوروبيين.
أُجبر مئات الآلاف على الهجرة الداخلية القسرية، وفقدوا مصادر رزقهم وارتباطهم التاريخي بالأرض.
فرضت فرنسا سلسلة قوانين تهدف إلى السيطرة على الجزائريين كان منها أصادر قانون الأهالي الذي منح الإدارة العسكرية صلاحيات واسعة للسجن والاعتقال والغرامات دون محاكمة.. وفرض ضرائب عنصرية مكّنت المستوطنين من السيطرة على الموارد، والقيام بترحيل جماعي لعشرات الآلاف إلى كاليدونيا الجديدة وغويانا وغيرها، هذه المنظومة القانونية كانت إطارًا رسميًا لمأسسة التمييز وتفكيك المجتمع الجزائري.
لم يقتصر الاستعمار على الإبادة الجسدية والديمغرافية، بل سعى إلى تدمير دور العبادة والزوايا، وإلغاء الأوقاف، ومحو الهوية العربية الإسلامية، والقضاء على النخب الدينية والاجتماعية، ومنع اللغة العربية في التعليم والإدارة.
وهو ما ينسجم مع تعريف رافاييل ليمكين لمفهوم الإبادة الجماعية بوصفها تدميرًا لمقومات مجموعة بشرية، وليس مجرد قتل أفرادها.
على اختلاف الظروف، تقاطعت التجربتان الجزائرية والمغربية في عدد من الملامح:
ـ الاستحواذ على الثروات والموارد من مصادرة الأراضي الزراعية في الجزائر، إلى السيطرة على مناجم المغرب وفوسفاطه، تميزت السياسة الفرنسية برؤية اقتصادية استغلالية، حولت شعوبًا كاملة إلى قوة عمل مسخّرة لصالح المستوطنين والإدارة الاستعمارية.
ـ العنف الممنهج حيث مارست فرنسا قصفًا للمدن، ومجازر قروية، وتعذيبًا واسعًا، وتنفيذ إعدامات ميدانية، والهجير القصري
ـ كسر الهوية الوطنية، كان الهدف منع الجزائريين والمغاربة من بناء مشروع وطني قادر على مقاومة الاحتلال
ـ توظيف الشعوب المستعمرة في الحروب الأوروبية، حيث زُجّ بعشرات الآلاف في الخطوط الأمامية لحروب لا علاقة لبُلدانهم بها، وسقط الآلاف منهم قتلى وجرحى.
لقد خلّفت عقود الاستعمار الفرنسي في الجزائر والمغرب إرثًا ثقيلًا من الألم الإنساني، والتدمير الديمغرافي، والتفكيك الاجتماعي، ومحاولات محو الهوية.
ورغم الاعترافات الجزئية أو المواربة التي تصدر أحيانًا عن مؤسسات فرنسية، إلا أن حقيقة ما جرى – سواء كان إبادة أو استعمارًا استيطانيًا – لا تزال محور مطالبات شعبية وأكاديمية واسعة بضرورة الاعتذار، وردّ الاعتبار، وتعويض الضحايا، وحفظ الذاكرة الجماعية من التشويه والنسيان.
إنها صفحات دامية من التاريخ، لكنها ضرورية لفهم حاضر المنطقة، ومستقبل العلاقات بين شعوب شمال إفريقيا وفرنسا، وبين الضحية والمستعمِر، وبين الذاكرة والعدالة.

