الجرائم الأوروبية في إفريقيا: الاحتلال البلجيكي للكونغو السجلُّ الأسود

مقدمة

شكّل الاحتلال الأوروبي لإفريقيا واحدًا من أكثر الفصول ظلامًا في التاريخ البشري، إذ لم يكن مشروعًا للتبادل الحضاري أو التطوير كما ادّعت قوى الاحتلال، بل كان عملية منظمة للنهب والقمع والاستعباد, وقد ارتكبت القوى الاستعمارية جرائم واسعة يمكن تصنيفها اليوم بوضوح ضمن الجرائم ضد الإنسانية, فقد شهدت إفريقيا عمليات قتل جماعي ومجازر بحق الشعوب الأصلية، كما حدث في الجزائر على يد الفرنسيين وفي ناميبيا على يد الألمان، وفي الكونغو على يد بلجيكا.

يقول السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي في محاضرته الرمضانية (19) 1445هـ: “نجد في التاريخ المعاصر من جهة الأوروبيين، ما ارتكبوه من جرائم الإبادة، والقتل، والظلم للشعوب، في قارة آسيا، وقارة أفريقيا، وقارة أمريكا اللاتينية، جرائم إبادة للملايين، للملايين، أبادوا في الجزائر مليوني جزائري مسلم، من أطفال، ونساء، وكبار، وصغار، أبادوا ثلث الشعب الليبي، ثلث السكان أبادوهم، أبادوا في بقية المجتمعات، في بقية الدول، ما مجموعه ملايين من البشر، قتلوهم وأبادوهم”.

وفي هذا التقرير نتناول ما تعرضت له الكونغو على يد الاحتلال البلجيكي وتحت حكم ملكها ليوبولد الثاني حيث تمثِّل نموذجًا للاحتلال الأوروبي القائم على العنف والقسوة والإبادات الجماعية.

طبيعة الحكم وآليات السيطرة

ظلَّت الإدارة في الكونغو الحرة مزيجًا من جهاز بيروقراطي مركزي في بروكسل وإدارة محلية تعتمد على الشركات الحاصلة على امتيازات واسعة، مثل شركات المطاط والعاج التي مُنحت “حقوقًا سيادية” في مساحات شاسعة. كانت هذه الشركات تتلقى دعمًا عسكريًا مباشرًا من الدولة (القوة العمومية) وتُمنح الحق في فرض الضرائب والعمل القسري والعقوبات، ما جعلها في الواقع سلطات استعمارية كاملة الصلاحيات.​

نظام الحصص والعمل القسري

نظام الحصص المفروض على القرى في المطاط والعاج شكّل العمود الفقري لاقتصاد الكونغو الحرة؛ إذ حُمِّلت كل قرية مسؤولية تسليم كمية محددة خلال فترة زمنية قصيرة.

عدم الوفاء بالحصص كان يعني الغرامات الثقيلة، وحرق المنازل، وأخذ الرهائن، بل وتنفيذ القتل الجماعي، الأمر الذي حوّل الحياة اليومية للسكان إلى حالة دائمة من الابتزاز والعنف.​

ترافق ذلك مع نظام عمل قسري واسع النطاق في جمع المطاط، ونقل الموارد، وبناء الطرق والمراكز الاستيطانية، حيث كان السكان يُجبرون على العمل فترات طويلة تحت التهديد، في ظروف صحية وغذائية قاسية أدت إلى وفيات مرتفعة. أدى هذا النظام إلى ما يشبه العبودية رغم ادعاءات الخطاب الرسمي محاربة تجارة الرقيق.​

القوة العمومية 

القوة العمومية كانت الذراع العسكرية والأمنية الرئيسية لنظام ليوبولد؛ تكوّنت من ضباط أوروبيين وجنود أفارقة مجنّدين أو مجلَبين من مناطق مختلفة، ووُضِع لهم نظام عقوبات صارم يدفعهم لممارسة العنف المفرِط لتأمين الحصص. تُشير دراسات عديدة إلى أن هذه القوة استخدمت القتل، والتشويه، والاغتصاب، والحرق، بوصفها أدوات متعمَّدة للترهيب والسيطرة، وأنها تحوّلت إلى جهاز رعب يومي لسكان الكونغو.​

من الممارسات الموثّقة مطالبة الجنود بتقديم يد مقطوعة عن كل طلقة رُميت، بهدف “إثبات” عدم تبديد الذخيرة، ما أدّى إلى انتشار فظيع لقطع الأيدي، سواء من القتلى أو من الأحياء، وظهور “سلال الأيدي” رمزًا للرعب الذي عاشته القرى. هذا الإجراء صار أحد أشهر الشواهد في التقارير الإنسانية والوثائق الدبلوماسية على الطبيعة المؤسسية للعنف في دولة الكونغو الحرة.​

الرهائن وأساليب الإكراه

كان أخذ النساء والأطفال رهائن ممارسة واسعة: تُحتجز زوجات وأبناء زعماء القرى أو العمال حتى يستوفوا المطلوب من المطاط أو الضرائب. كثيرًا ما كان الرهائن يتعرضون لسوء المعاملة وسوء التغذية، وفي حالات موثّقة كان يُقتَل بعضهم إذا تأخرت القرى في التسليم، ما جعل الرهائن أداة ضغط نفسي ومادي في آن واحد.​

إلى جانب ذلك، استُخدمت العقوبات الجماعية مثل حرق القرى، وتدمير الحقول، وفرض حصار غذائي، للتأديب والعقاب، وهو ما ساهم في نشر المجاعة والأوبئة وتهجير السكان داخليًا. كما ترافق العنف الجسدي مع عنف رمزي – إهانة للزعماء التقليديين، وطمس للمؤسسات المحلية، وإذلال متعمّد للسكان لإشعارهم بالدونية والعجز.​

أشكال الجرائم والأدلة والشواهد

العقوبة الأكثر شيوعا كانت بكل بساطة قطع اليد، فإذا لم تقدم القرية كمية المطاط المطلوبة منها يؤخذ كل الذكور البالغين وتقطع أيديهم، وفي المرة الثانية تقطع أيديهم الأخرى، وإذا استمرت العائلة في عدم توفير المطاط اللازم تباد عن بكرة أبيها.

وقد تنوّعت الجرائم ما بين القتل الجماعي في حملات عسكرية ضد قرى كاملة، وعمليات قمع دامية للاحتجاجات أو عصيان الحصص، أدت لمجازر حقيقية تسببت في انخفاض حاد بأعداد السكان في بعض المناطق.

تقارير دبلوماسية وكنسية وصحفية من بريطانيا والولايات المتحدة وبلجيكا ذاتها رصدت قرى أُبيدت جراء هذه الحملات أو جرّاء الجوع والأوبئة التي تلتها.​

التشويه وقطع الأيدي والأصابع موثّق في شهادات قناصل أجانب (مثل روجر كيسمنت) وفي تقارير البعثات التبشيرية والجمعيات الإنسانية، إضافة إلى الصور الفوتوغرافية التي عُرضت لاحقًا على الجمهور الغربي ضمن الحملات الإصلاحية. كما أشارت تقارير طبية إلى آثار العنف الجسدي وسوء التغذية والعمل المرهِق على الأطفال والنساء، مؤكدة حجم الانهيار الصحي الذي أصاب المجتمعات المحلية.​

تدمير المحاصيل ونهب الموارد الغذائية والاقتصادية أدّى إلى موجات مجاعة واسعة؛ إذ كان السكان يُضطرّون لترك الزراعة التقليدية لصالح جمع المطاط والعاج، ما قلّل من إنتاج الغذاء وأضعف القدرة على مواجهة الأمراض. ارتبط ذلك بنزوح قسري داخلي حيث هربت مجموعات من المناطق الخاضعة لأثقل الحصص إلى أحراش أو أقاليم مجاورة، مخلفة فراغات سكانية في كثير من القرى.​

تقديرات الخسائر البشرية

تقدير أعداد الضحايا مسألة معقدة بسبب غياب إحصاءات موثوقة قبل فترة الحكم البلجيكي الرسمي، لكن أغلب الدراسات تشير إلى انهيار سكاني هائل خلال مرحلة دولة الكونغو الحرة. استنادًا إلى لجنة بلجيكية رسمية عام 1919 ودراسات لاحقة (مثل أعمال آدم هوتشيلد ويان فانزينا)، تُقدَّر الخسائر بما يقارب نصف السكان خلال جيل واحد.​

مع أن الأرقام تختلف بين الباحثين، فإن نطاقًا شائعًا في الأدبيات التاريخية يتحدث عن نحو 8–10 ملايين إنسان فقدوا حياتهم نتيجة القتل المباشر، والعمل القسري، والمجاعات، والأمراض المرتبطة بالبنية الاستعمارية. مؤرخون آخرون يقدمون نطاقًا أوسع (من قرابة مليون إلى 15 مليونًا) تبعًا للمنهجية، لكن هناك شبه إجماع على أن حجم الكارثة البشرية غير مسبوق في تاريخ الاحتلال الإفريقي في القرن التاسع عشر.​

الفاعلون الرئيسيون والمسؤولية

  • ليوبولد الثاني هو المسؤول السياسي والأخلاقي الأول عن النظام الذي أُقيم في الكونغو الحرة، إذ جمع بين صفة ملك دستوري على بلجيكا ومالك مطلق لدولة في إفريقيا تُدار كـ“مشروع خاص”. كلّف شبكة من الإداريين والضباط والشركات بتنفيذ سياساته مقابل جزء من الأرباح، ما ربط مصالحهم مباشرة باستمرار نموذج الاستغلال والعنف.​
  • شركات الامتياز الكبرى – وهي كيانات تجارية حازت حقوق استغلال حقول المطاط والعاج على مساحات هائلة – لعبت دورًا مركزيًا في الضغط لرفع الحصص وتشديد العقوبات، وكانت تربطها علاقات وثيقة ببروكسل من خلال مجالس الإدارة والمساهمين الأوروبيين. أما القوة العمومية فكانت الأداة التنفيذية اليومية للعنف، مسؤولة عن أغلب حملات القتل والتشويه وأخذ الرهائن.​

الحركة الدولية المناهضة والانكشاف العالمي

أسّس موريل مع كيسمنت وآخرين “جمعية إصلاح الكونغو” (Congo Reform Association)، والتي نظّمت حملات إعلامية ومحاضرات عامة وعروض صور فوتوغرافية تجسّد بوضوح معاناة الكونغوليين. انضم سياسيون، ومثقفون من أوروبا والولايات المتحدة لهذه الحملة، ما وضع ضغوطًا غير مسبوقة على الحكومة البلجيكية وعلى ليوبولد نفسه.​

تحت هذا الضغط الدولي والجدل الداخلي في بلجيكا، جرت عملية “ضم” الكونغو للدولة البلجيكية عام 1908، لينتهي الشكل القانوني للملكية الخاصة ويبدأ عهد “الكونغو البلجيكية”، وإن استمر كثير من أنماط الاستغلال وعدم المساواة في العقود التالية.​

الآثار البعيدة المدى والإرث

الانهيار السكاني والعنف البنيوي دمّرا النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات الكونغولية، إذ اختلت التوازنات بين الأجيال، وتراجعت أنظمة القرابة، وتفككت الهياكل التقليدية للإنتاج وتوزيع الأرض. كما أدّى منح الشركات والضباط سلطات استثنائية إلى إضعاف أي خبرة محلية في إدارة شؤون الدولة، ما ترك الكونغو بعد الاستقلال في منتصف القرن العشرين بمؤسسات هشة وقاعدة بشرية منهكة.​

الإرث الحدودي والمؤسسي الذي خلّفته المرحلة الاستعمارية – بما فيها التقسيمات الإدارية، والسياسات التفضيلية لبعض المجموعات، واستغلال الموارد لصالح مراكز خارجية – ساهم في تغذية توترات وصراعات لاحقة في تاريخ جمهورية الكونغو الديمقراطية. على المستوى الثقافي والنفسي، أصبحت ذاكرة المجازر والعمل القسري والمجازر الجماعية جزءًا من الوعي الجمعي الكونغولي، وتظهر في الروايات الشفهية والأعمال الأدبية والنقاشات السياسية حتى اليوم.​

البعد القانوني والأخلاقي المعاصر

استُخدم وصف “جرائم ضد الإنسانية” في وقت مبكر نسبيًا لوصف ممارسات دولة الكونغو الحرة؛ فقد كتب الناشط الأمريكي جورج واشنطن ويليامز عام 1890 نصًا شهيرًا يصف ما يحدث في الكونغو بتعبير “جرائم ضد الإنسانية”، في واحد من أوائل الاستخدامات لهذا المصطلح في الخطاب الحقوقي الحديث. في ضوء القانون الدولي الحالي، يمكن تصنيف كثير من الممارسات (القتل المنهجي، العبودية، الترحيل القسري، التعذيب، التشويه) ضمن نطاق الجرائم الدولية، لولا القيود الزمنية وعدم رجعية القوانين.​

أثارت هذه الأحداث نقاشات مستمرة حول المسؤولية التاريخية لبلجيكا وإمكانية الاعتذار الرسمي والتعويض المعنوي والمادي؛ ففي العقود الأخيرة تصاعدت مطالب الكونغوليين ومنظمات المجتمع المدني بفتح الأرشيفات، والاعتراف الواضح بفظائع عهد ليوبولد، وإدراج هذه الحقبة في المناهج التعليمية الأوروبية بوصفها جزءًا من تاريخ جرائم الاحتلال الأوروبي. تُستخدم قصة الكونغو الحرة اليوم كمرجع مهم في الحركات المناهضة للاحتلال والعنصرية، وكحجّة أخلاقية وسياسية في النقاش حول العدالة الانتقالية ما بعد الاحتلال.​

أعده: عبدالرحمن الحمران

قد يعجبك ايضا