السعودية.. من قاعدة بريطانية إلى أداة أمريكية لإجهاض التحرر العربي

قرن من الحروب السعودية.. من معاهدة دارين إلى عاصفة الحزم

جذور النشأة.. تحالف السيف والعهد البريطاني

الحقيقة ـ جميل الحاج

منذ مطلع القرن العشرين، ارتسم الدور السياسي والعسكري للنظام السعودي داخل خارطة النفوذ الاستعماري في المنطقة العربية. لم يكن تأسيس الكيان السعودي وليد مشروع وطني أو حراك تحرري، بل جاء ثمرة تحالفٍ متين مع بريطانيا، القوة الاستعمارية الأولى آنذاك، التي رأت في آل سعود أداةً مثالية لتثبيت نفوذها في الجزيرة العربية وضمان السيطرة على منابع النفط وطرق التجارة العالمية.

في عام 1915، وقّع عبد العزيز آل سعود مع المندوب البريطاني بيرسي كوكس “معاهدة دارين”، التي شكلت الإطار الرسمي الأول لتبعية النظام السعودي لبريطانيا.

اعترفت لندن بسيطرة آل سعود على مناطق واسعة من نجد والقطيف وأقاليم أخرى، مقابل التزامهم الكامل بالسياسة الخارجية البريطانية.

كما تعهّد آل سعود بعدم التدخل في شؤون الكويت وقطر وعُمان، وهو ما يعكس بوضوح طبيعة الدور الوظيفي للمملكة الناشئة: تثبيت النفوذ البريطاني وضبط توازنات الخليج بما يخدم المشروع الاستعماري.

حرب اليمن الأولى.. التوسع على حساب الجار الجنوبي

بين عامي 1924 و1934، شنّ آل سعود سلسلة من الحروب بدعم وتمويل بريطاني مباشر، استهدفت المناطق اليمنية في عسير ونجران وجيزان، تلك الحرب لم تكن صراعًا حدوديًا بسيطًا، بل مشروعًا لتوسيع كيان سياسي موالٍ لبريطانيا، في مواجهة أي طموحات وطنية أو قومية في اليمن والجزيرة.

وجاءت حرب 1934 كتتويج لهذا التوسع، لترسم الحدود الجنوبية لما عُرف لاحقًا بـ“المملكة العربية السعودية”. كانت تلك الحرب اللبنة الأولى في تاريخ العدوان السعودي على اليمن، والتي ستتكرر لاحقًا بأشكال وأدوات مختلفة، لكنها تظل تحمل الجوهر ذاته: حرب لحماية الهيمنة الأجنبية ومنع قيام أي دولة مستقلة في جوارها.

من الحماية البريطانية إلى الوصاية الأمريكية

اتفاقية كوينسي.. النفط مقابل الحماية

في 14 فبراير 1945، أي قبل النكبة الفلسطينية بثلاث سنوات، التقى عبد العزيز آل سعود بالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على متن الطراد الحربي “يو إس إس كوينسي”. لم يكن اللقاء مجرد مجاملة سياسية، بل بداية مرحلة جديدة من الوصاية الأمريكية على الخليج.

تعهدت واشنطن بحماية النظام السعودي مقابل استمرار تدفق النفط للشركات الأمريكية بأسعار تفضيلية، لتتحول السعودية إلى الركيزة الأساسية في منظومة الهيمنة الغربية ونهب ثروات المنطقة.

ومنذ ذلك التاريخ، أصبح النفط هو السلاح، والمال هو الوقود، والنظام السعودي هو القاعدة المتقدمة للمشروع الأمريكي الصهيوني في قلب العالم العربي.

الدور الوظيفي في دعم الكيان الصهيوني

تزامن هذا التحالف مع مشروع قيام “إسرائيل” عام 1948. كثير من المؤرخين اعتبروا لقاء كوينسي جزءًا من الترتيبات الأمريكية لضمان أمن (إسرائيل) الوليدة، عبر شبكة من الحلفاء، في مقدمتهم النظام السعودي، الذي لم يقف يومًا في وجه المشروع الصهيوني فعليًا، رغم شعاراته العلنية المناقضة لذلك.

حرب اليمن الثانية.. مواجهة الجمهورية

عندما اندلعت ثورة 26 سبتمبر 1962 في شمال اليمن، معلنةً قيام الجمهورية العربية اليمنية وسقوط النظام الإمامي المتوكلي، شعرت السعودية أن الخطر وصل إلى حدودها. لم تكن الثورة حدثًا محليًا بل امتدادًا لتيار قومي يقوده الرئيس جمال عبد الناصر، يهدد الأنظمة الملكية التابعة للاستعمار.

رفضت “السعودية” الاعتراف بالجمهورية، وسارعت إلى تمويل الثورة المضادة بقيادة الإمام البدر، بل وجهت – وفق وثائق صهيونية – رسائل إلى (إسرائيل) تطلب منها دعم “الحلف البريطاني-السعودي” ضد النظام الجمهوري في اليمن.

كانت تلك الحرب مختبرًا مبكرًا لوظيفة النظام السعودي: استخدام المال والمرتزقة والإعلام لإسقاط أي تجربة تحرر وطني.

السعودية تموّل الحروب بالوكالة

من لبنان إلى العراق.. المال كسلاح دمار شامل

بعد هزيمة المشروع الناصري، تبنت الرياض سياسة “الحروب بالوكالة”. ففي الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990)، ضخت مليارات الدولارات لدعم فصائل متناحرة، ساهمت في تدمير لبنان وإضعاف القوى الوطنية.

وفي الحرب العراقية الإيرانية (1980–1988)، دفعت السعودية أكثر من 30 مليار دولار لدعم صدام حسين، في واحدة من أكبر عمليات التمويل لحرب استنزاف دموية، هدفت إلى إنهاك العراق وإيران معًا لصالح واشنطن وتل أبيب.

لكن بعد انتهاء الحرب، انقلب السحر على الساحر، حين غزا العراق الكويت عام 1990، لتتحول الرياض إلى منصة لغزو عربي بدعم أمريكي ضد بلد عربي.

استضافت السعودية أكثر من نصف مليون جندي أمريكي، ومولت حرب “عاصفة الصحراء” بأكثر من 50 مليار دولار، لتبدأ مرحلة جديدة من الاحتلال الأمريكي للخليج، بلغت ذروتها باحتلال العراق عام 2003.

“الجهاد الأمريكي”.. السعودية رأس الحربة في أفغانستان

في 1979، غزت القوات السوفيتية أفغانستان، فوجدت واشنطن الفرصة الذهبية لإشعال حرب استنزاف ضد موسكو، تكفلت السعودية، بالشراكة مع الاستخبارات الأمريكية، بتمويل وتسليح “المجاهدين” التكفيريين.

بلغت مساهمتها أكثر من 3.5 مليار دولار، وساهمت في تجنيد عشرات الآلاف من الشباب العرب تحت راية “الجهاد ضد الكفار”، لتتحول تلك الحرب إلى مفرخة للتطرف الذي ضرب لاحقًا العراق وسوريا واليمن.

تحت غطاء “نشر الإسلام”، استخدمت السعودية الدين كأداة سياسية لتخريب المجتمعات المسلمة وإضعاف حركات التحرر، بينما كانت واشنطن تحقق أهدافها الاستراتيجية عبر تلك الحرب بالوكالة.

سوريا واليمن.. الواجهة الجديدة للمشروع الأمريكي السعودي

سوريا.. إسقاط الدولة تحت شعار “الثورة”

منذ عام 2011، شاركت السعودية في تدمير سوريا تحت ذريعة “دعم الشعب السوري”، بينما كانت تموّل الجماعات المسلحة وتنسق مع واشنطن وتل أبيب لإسقاط الدولة السورية.

كشف وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم أن السعودية طلبت من دول الخليج 2000 مليار دولار لتمويل الحرب على سوريا، بإشراف مباشر من بندر بن سلطان، أحد أبرز رجال الاستخبارات السعودية والأمريكية.

اليمن.. “عاصفة الحزم”.. حرب لإجهاض ثورة الاستقلال

في 26 مارس 2015، أطلقت السعودية عدوانها الواسع على اليمن تحت اسم “عاصفة الحزم”، بمشاركة إماراتية وإدارة أمريكية مباشرة.

على مدى أكثر من سبع سنوات، شنّ التحالف أكثر من 200 ألف غارة جوية، أسفرت عن استشهاد أكثر من 18 ألف يمني وتدمير شامل للبنية التحتية، بتكلفة تجاوزت 725 مليار دولار.

ورغم هذا الدمار، خرجت حركة أنصار الله أكثر قوة، بعدما أثبتت قدرتها على الردع العسكري وضرب العمق السعودي والإسرائيلي.

ختاماً: من معاهدة دارين إلى “عاصفة الحزم”، مرورًا بكوينسي والجهاد الأفغاني، تكشف كل محطة من تاريخ الحروب السعودية أن المنهج لم يتغير:

التحالف مع الاستعمار، محاربة التحرر، تمويل الفوضى، وتقديم المال والسلاح لخدمة أجندة الغرب والكيان الصهيوني.

اليوم، وبينما تواصل غزة نزيفها، واليمن يواجه العدوان، تتجسد بوضوح حقيقة أن النظام السعودي لم يكن يومًا جزءًا من مشروع الأمة، بل أداة لتفكيكها وإدامة الهيمنة عليها.

قد يعجبك ايضا