الشرعية والجدوى والتهديد: ثلاثية النقاش حول سلاح حزب الله

تطرح قضية سلاح المقاومة في لبنان إشكالية مركزية في النقاش السياسي والوطني، حيث تتقاطع حولها المواقف الداخلية والانقسامات الطائفية، مع ضغوط دولية وإقليمية متصاعدة. ومنذ حرب “أولي البأس”، تعاظم الجدل بشأن شرعية هذا السلاح وفعاليته ودوره المستقبلي في معادلة الأمن والسيادة. تهدف هذه الدراسة إلى قراءة الخطاب المروَّج حول السلاح، وتفكيك عناصره القانونية والسياسية والعسكرية، من أجل إبراز موقع المقاومة كعنصر دفاعي أساسي في مواجهة المشروع الإسرائيلي والتحديات الإقليمية، بعيداً عن التوظيفات الإعلامية والسياسية.

أولاً: الشرعية القانونية للسلاح

يتصدّر الجدل حول شرعية سلاح حزب الله النقاش اللبناني والدولي. فالمعارضون يطرحون السلاح بوصفه أداة صراع إقليمي بين إيران و”إسرائيل”، لا وسيلة دفاع وطنية، معتبرين أنّ حرب “أولي البأس” شكّلت دليلاً على أنّ الحزب جرّ لبنان إلى مواجهة كارثية خارج سلطة الدولة. ويذهب هذا الخطاب إلى القول إنّ المقاومة فقدت وظيفتها بعد تحرير الجنوب عام 2000 وتبادل الأسرى في 2006، بحيث تحوّل السلاح إلى أداة نفوذ داخلي أو إقليمي يخدم مشاريع إيرانية. كما تستشهد المعارضة بمواقف الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الغربية التي طالبت مراراً بنزع سلاح الميليشيات.

لكنّ المعالجة الواقعية تكشف أنّ هذا الطرح يتجاهل الحقائق الدستورية والقانونية. فاتفاق الطائف نصّ على حلّ الميليشيات التي شاركت في الحرب الأهلية، بينما لم يكن حزب الله جزءاً منها بل نشأ كحركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. واستمرار سلاحه جاء بغطاء شرعي من الدولة اللبنانية، حيث تبنّت عشرات الحكومات المتعاقبة معادلة “الجيش والشعب والمقاومة” في بياناتها الوزارية، مانحةً السلاح اعترافاً رسمياً متكرراً. وإلى جانب الشرعية الوطنية، يكرّس القانون الدولي حق الشعوب في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال والدفاع المشروع عن النفس، ما يجعل سلاح حزب الله مشروعاً بوضوح. كما أنّ القرار 1701 الذي أنهى حرب تموز 2006 ركّز على وقف العدوان الإسرائيلي، وهو ما لم تُنفّذه تل أبيب، ما يُبقي مبرر المقاومة قائماً.

ثانياً: جدوى السلاح وفعاليته

يعمل الخطاب المعارض على تصوير سلاح المقاومة كأداة فقدت فعاليتها بعد الحرب الأخيرة، معتبراً أنّه أصبح عبئاً على لبنان سياسياً واقتصادياً وأمنياً. ويركّز هذا الطرح على الخسائر البشرية، وعلى رأسها استشهاد الأمين العام السيد حسن نصر الله، ليقدّمها كدليل على اهتزاز بنية المقاومة. كما يستند إلى تقارير غربية وإسرائيلية تزعم أنّ قدرات الحزب الصاروخية تراجعت وأنّه لم يعد قادراً على فرض معادلة الردع.

في المقابل، يظهر التحليل الواقعي أنّ السلاح لم يفقد جدواه الاستراتيجية. صحيح أنّ الحرب خلّفت خسائر كبيرة، لكنّها منعت العدو من تحقيق أهدافه المركزية، مثل الوصول إلى نهر الليطاني أو فرض شروط سياسية جديدة. وحتى بعد الحرب، فرض السلاح على إسرائيل الدخول في مفاوضات عبر الوسطاء، ما يؤكد دوره كورقة قوة تفاوضية. كما أنّ الضغط الدولي لنزع السلاح يعكس في جوهره اعترافاً بفعاليته، إذ لا تُطالب قوى كبرى بإزالة سلاح فاقد الجدوى. أما القول بانتهاء الردع، فيتجاهل أنّ الردع مفهوم متغيّر يخضع لانتكاسات ظرفية ثم يعاد ترميمه مع تغيّر الموازين. وتجربة المقاومة اللبنانية أثبتت قدرتها على إعادة إنتاج قوتها الردعية رغم الخسائر، خصوصاً أنّها تستند إلى دعم شعبي ووطني واسع لا يتوافر عادةً للجيوش التقليدية.

ثالثاً: التهديدات المستقبلية

يركّز الخطاب المناوئ على أنّ بقاء السلاح يشكّل تهديداً دائماً للبنان. فهو – برأيهم – يفتح الباب أمام مواجهات جديدة مع إسرائيل، ويجعل البلد هدفاً دائماً للقصف والعقوبات، ويمنع الاستثمارات الأجنبية ويؤجّج الانقسامات الداخلية. كما يُطرح أنّ أي صراع إقليمي، خصوصاً بين إيران و”إسرائيل”، قد يستخدم حزب الله فيه سلاحه، ما يجعل لبنان طرفاً في حروب غير محسوبة.

غير أنّ المعالجة الواقعية تكشف أنّ مصدر التهديد الأساسي للبنان يبقى المشروع الإسرائيلي التوسّعي الذي لا يخفي أطماعه في الجنوب والبقاع. ومع ضعف الدولة وعجزها عن الدفاع أو حتى عن وقف الاعتداءات اليومية، تصبح المقاومة ضرورة وجودية وليست خياراً سياسياً. كما أنّ تجربة 7 أيار أظهرت أنّ السلاح لم يُستخدم لفرض هيمنة داخلية، بل لحماية شبكة اتصالات اعتُبرت جزءاً من قدرة الدفاع، مع ضبط الموقف لمنع الانزلاق إلى فتنة. وفي البعد الدولي، فإنّ تصوير المقاومة كعقبة أمام الانفتاح الاقتصادي هدفه سياسي للضغط على لبنان، بينما الواقع أنّ السلاح يمنح الدولة قوة تفاوضية أكبر، إذ يمكن أن تنخرط في علاقات دولية من موقع قوة لا من موقع ضعف وانكشاف.

رابعاً: الدولة مقابل المقاومة

يقدّم الخطاب المعارض الجيش اللبناني كبديل شرعي ووحيد للسلاح. ويرى أنّ المجتمع الدولي مستعد لتقديم الدعم للدولة فقط، شريطة احتكارها القوة المسلحة. لكنّ الواقع يثبت أنّ قدرات الجيش محدودة للغاية مقارنة بالتفوّق العسكري الإسرائيلي، وأنّ المساعدات الدولية الموعودة لا تفي بمتطلبات الردع الحقيقي. من هنا، لا يشكّل سلاح المقاومة بديلاً عن الدولة، بل مكمّلاً لها، خصوصاً أنّ المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تعترف بحق الدفاع المشروع حتى في حال عجز الدولة.

التجارب العالمية الأخرى توضح أنّ المقاومات لا تسلّم سلاحها إلا بعد زوال الاحتلال أو التوصّل إلى اتفاق سياسي شامل بضمانات دولية. وهو ما يعني أنّ مطالبة حزب الله بتسليم سلاحه قبل تحقيق التحرير الكامل وضمان حماية لبنان أمر غير واقعي ولا يستند إلى أي نموذج ناجح.

الخلاصة

إنّ الخطاب الذي يعمل على نزع الشرعية عن سلاح المقاومة أو تصويره كعبء على لبنان يتجاهل حقيقة أنّ السلاح ما زال يمثل عنصر قوة استراتيجي في مواجهة المشروع الإسرائيلي التوسّعي. فقد أثبتت التجربة أنّ الدولة اللبنانية عاجزة عن الدفاع منفردة عن سيادتها، وأنّ المقاومة لا تشكّل منافساً للدولة بل سنداً لها، خصوصاً في ظل الخلل الكبير بموازين القوى مع الاحتلال. وبالتالي، فإنّ بقاء السلاح مشروع قانونياً وواقعياً وضروري استراتيجياً، إلى أن يتحقق التحرير الكامل وتزول التهديدات. فهو ليس فقط أداة عسكرية، بل عنوان للكرامة الوطنية وركيزة لمعادلة حماية لبنان من أطماع الاحتلال.

قد يعجبك ايضا