المال والمآل
د/ عبدالرحمن المختار
يعد المالُ بشكل عام الدينمو المحرك لكل نشاط إنساني في مختلف جوانب الحياة، وهو كذلك الذي يحدّد للإنسان الاتّجاهات التي يتحَرّك فيها.
ومن أهمِّ اتّجاهاتِ التحَرّكات الإنسانية الفردية والجماعية حماية الأنشطة المدرة للمال، وما يتطلَّبُه ذلك من توفيرِ وسائلِ الحماية اللازمة المناسبة والمتناسبة مع التطوُّرات الحاصلة في مختلف جوانب الحياة.
ويندرجُ ضِمْنَ التحَرُّكاتِ البشرية القائمة على الوفرة المالية التحَرّكات العدوانية التوسعية، سواءٌ أكانت فرديةً أَو جماعية.
فقد تغري الوفرةُ المالية حائزَها على السلوكيات العدوانية في مواجَهة الآخرين، فيمكن من خلال المال توفير مختلف الوسائل القتالية التي تدفع المعتدي للعدوان على غيره، وهو ما يدفع الآخرين لاقتناء وسائل الدفاع اللازمة لرد العدوان، بوصف ذلك حالة فطرية مرتبطة بالطبيعة الإنسانية، وليتحقّق بذلك نظام التدافع الإلهي المتبادل الوارد في قوله تعالى: «ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لفسدت الأرض».
ويعتمد اليهودُ الصهاينةُ على المال بشكلٍ كبيرٍ لإخضاعِ أعدائهم، وهذا دأبُهم في مختلفِ العصور، ويستهدفون بشكل أَسَاسي الأُمَّــةَ الإسلاميةَ بصور وأشكال متعددة؛ باعتبَار أن العِداءَ لهذه الأُمَّــة لا يرتبط بمُجَـرّد مصالح عابرة، بل يرتبط العداء بدين الأُمَّــة.
وقد سبق أن حذَّرها اللهُ سبحانَه وتعالى من شدة عداوة أعدائها، فقال عز من قائل: «لتجدن أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود…»، وقال: «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم».
فالواضح إذَا أن الدين الإسلامي هو سبب عداوة الأعداء، وليس سببًا آخر.
ومن ثم فَــإنَّ رضا الأعداء مرتبط بصرف الأُمَّــة عن دينها الحق.
وقد أوجب الله سبحانَه وتعالى على الأُمَّــة الإسلامية قتال أعدائها من اليهود والنصارى، وأن يكون قتالهم لله وفي سبيل الله، بغض النظر عن أهداف ودوافع الأعداء المعلنة أَو الخفية، لتحظى الأُمَّــة بمعية الله ونصره وتأييده.
قال تعالى: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».
وقد هيأ الله سبحانه وتعالى للأُمَّـة الإسلامية من الإمْكَانيات المادية ما يمكنها من النهوض بواجبها في مواجهة أعدائها، فسخّر لها من الثروات والموارد المتنوعة ما يغنيها عن غيرها من الأمم.
فالأمة الإسلامية بموقعها الجغرافي الفريد، وما يتوافر لها من ثروات وموارد، إن أحسنت استخدامها وتوظيفها، فَــإنَّها تسود أمم الأرض كافة، وتدفع عنها مخاطر العدوان عليها من جانب غيرها من الأمم.
وواجب الأُمَّــة الإسلامية تكاملي عام وشامل لكافة أبنائها.
والأصل أن مواردها وثرواتها المتنوعة تُسخّر لخدمة أبناء الأُمَّــة ونصرة قضاياهم في كافة نطاقها الجغرافي، وليس مقبولًا دينًا – كما فصّل ذلك السيد القائد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- – التنصل عن واجب نصرة أبناء الأُمَّــة في أية نقطة من جغرافيتها الواسعة، أَو الاستحواذ بالثروات والموارد العامة؛ بحُجَّـة أنها تتواجد في نطاقات معينة من تلك الجغرافيا ليستقل بها من هم في ذلك النطاق دون غيرهم.
وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على جميع أبناء الأُمَّــة الإسلامية الإنفاق من أموالهم الخَاصَّة، واعتبر ذلك جهادًا في سبيل الله، بل اعتبر الجهاد بالمال أشمل من الجهاد بالنفس، وقدمه في آيات كثيرة على الجهاد بالنفس، الذي لا يلزم إلا المستطيع على حمل السلاح ومواجهة الأعداء، في حين يشمل الجهاد بالمال جميع أبناء الأُمَّــة: رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، أصحاء ومرضى.
والتزام جميع أبناء الأُمَّــة الإسلامية بواجباتهم بالإنفاق في سبيل الله من أموالهم الخَاصَّة، وتسخير الأموال العامة في خدمة عامة أبناء الأُمَّــة، يجعل مآل الأُمَّــة عزّة وكرامة وسيادة على الأمم الأُخرى.
وَإذَا ما بخِل آباء الأُمَّــة بأموالهم الخَاصَّة ولم ينفقوها في سبيل الله، وتم الاستحواذ بالثروات والموارد العامة من جانب فئات محدّدة من أبناء الأُمَّــة، ولم تُوظَّف في خدمة النهوض بعامة أبناء الأُمَّــة، فَــإنَّ مآلها إلى الضعف والهوان.
وقد حذر الله سبحانَه وتعالى الأُمَّــة من هذه الحالة، فقال عز من قائل: «وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة…».
والمؤسف أن هذا هو حال أغلب أبناء الأُمَّــة الإسلامية: فلا إنفاق في سبيل الله من الأموال الخَاصَّة، ولا تسخير للأموال العامة لخدمة مجموع الأُمَّــة، بل استحواذ على الثروات والموارد من جانب بعض الأنظمة، وعدم تسخير تلك الموارد ليس لخدمة مجموع الأُمَّــة، بل عدم تسخيرها حتى لمجموع الشعوب في تلك الأنظمة، حَيثُ تستحوذ عليها قلة قليلة من الممسكين بزمام السلطة في تلك الشعوب، كما هو حال دول الخليج.
والأسوأ من كُـلّ ذلك ذهاب ثروات الأُمَّــة ومواردها إلى أعدائها، لتعود على أبناء الأُمَّــة في شكل أسلحة إبادة ودمار شامل.
وَإذَا كان أعداء الأُمَّــة ينهبون ثروات شعوبها بعناوين زائفة، كما فعل المجرم ترامب الذي استحوذ في زيارة واحدة لثلاث دول خليجية -هي السعوديّة والإمارات وقطر- على أكثر من خمسة تريليونات دولار، وهذه الأموال المهولة كفيلة بأن لا تبقي في الأُمَّــة الإسلامية فقيرًا واحدًا، وأن تنهض بها إلى مصاف الأمم المتقدمة، وكل هذه الأموال لم تذهب هباءً فحسب، بل جلبت على أبناء الأُمَّــة الويلات!
ومحزن أيما حزن حال الحكومة اللبنانية في اجتماعها، أمس، في قصر بعبدا برئاسة رئيس الدولة.
وقد كان الأصلُ في هذا الاجتماع أن تقر الحكومة الانتصار لأبناء الشعب اللبناني والاقتصاص لهم من العدوّ الصهيوني، الذي يقتلهم غدرًا وغيلة صباحًا ومساءً منذ توقيع اتّفاق وقف إطلاق النار، فكان قرار الحكومة اللبنانية وإقرارها بعيدًا ومخيبًا لكل الآمال!
فقد أقرّت الحكومةُ اللبنانية في اجتماعها بالفضل العظيم للإدارة الأمريكية على ما تقدِّمُه هذه الإدارةُ المجرمةُ من معونةٍ سنويةٍ للجيش اللبناني، فأقرّت الحكومة اللبنانية وبفخر واعتزاز كبيرين أن المعونة الأمريكية للجيش اللبناني قد بلغت هذا العام مِئة وتسعين مليون دولار، ومبلغ أربعين مليون دولار لقوى الأمن الداخلي.
وقد تفاخرت الحكومة اللبنانية بأن ذلك يؤكّـد رضا الإدارة الأمريكية عن أداء الجيش اللبناني، بعكس ما يشاع من عدم رضا؛ إذ لو كان ذلك صحيحًا لما ارتفعت المعونة إلى هذا الحد!
ومعلوم أن الإدارة الأمريكية الإجرامية ليست جمعية خيرية عندما تقدم المعونة للبنان بشكل عام، أَو بشكل خاص أن تكون هذه المعونة موجهة للجيش اللبناني ولقوى الأمن الداخلي.
ومعلن بشكل صريح وواضح عن هذه المعونة، وستكون أهدافها بكل تأكيد واضحة ومحدّدة، طالما أنها مقدمة للجيش ولقوى الأمن الداخلي، فذلك يعني الربط المباشر للجيش اللبناني ولقوى الأمن الداخلي بأهداف الإدارة الأمريكية!
وهذا المعنى يتحقّق في حال أن تلك الأهداف لم تكن صريحة وواضحة ومحدّدة ومعلنة، لكن وقاحة وبجاحة الإدارة الأمريكية حدّدت تلك الأهداف بشكل صريح وواضح على لسان مبعوثها توم براك، الذي وبّخ اللبنانيين بشكل صريح بأن دعم إدارته للجيش اللبناني ليس مِن أجلِ محاربة (إسرائيل)، بل مِن أجلِ نزع سلاح حزب الله!
وطالما قبلت الحكومة اللبنانية تخصيص الإدارة الأمريكية معونة مالية للجيش اللبناني ولقوى الأمن الداخلي، فَــإنَّه لا يمكن التعويل على هذا الجيش أَو القوى الأمنية للدفاع عن لبنان وحماية أمن مواطنيه في مواجهة الأعداء؛ باعتبَار أنه قد جرى ربط الجيش وقوى الأمن الداخلي بالممول لها، وهو الأمريكي، وهو من ثم من سيتحكم بتحَرّكات الجيش وقوى الأمن الداخلي، وليس الحكومة اللبنانية.
فمن بيده المال، بيده الإرادَة!
وكان يمكن للحكومة اللبنانية لو كان لديها قدرًا من الاستقلالية أن لا تقبل من الإدارة الأمريكية بأي حال من الأحوال تخصيص المعونة للجيش ولقوى الأمن الداخلي، وأن تكون هذه المعونة -في حال ضرورة اللجوء لها- عامة للبنان ككل، والحكومة اللبنانية هي من تعمل على تخصيص إنفاقها في الأوجه التي ترى ضرورة لإنفاقها فيها، وبما لا يمس بشكل صريح وواضح بسيادتها.
ذلك أن تخصيصها للجيش ولقوى الأمن الداخلي يعد مساسًا مباشرًا بسيادة الدولة اللبنانية!
وهذه الحالة سبق مثلها في بلادنا سنة 2000، عندما عمل عفَّاش الرجيم على استدرار الأموال من المانحين، حين أطلق في ذلك الحين مشروعَه الديماغوجي حولَ السلطة المحلية لإيهام بمنح صلاحيات واسعة للمحافظات والمديريات، وأن ذلك يتطلب تمويلًا ضخمًا.
غير أن المانحين أرسلوا له مجموعة من الخبراء لدراسة الموارد المحلية لتمويل مشروع السلطة المحلية ذاتيًّا، وحينها وجد خبراء الدول المانحة فرصة سانحة لضرب وظيفة الزكاة في المجتمع اليمني، عندما اشترطوا على عفاش تخصيص مورد الزكاة للسلطة المحلية!
وحين أثار البعض موضوع مصارف الزكاة في القرآن الكريم، لم يتردّد المانحون في إنشاء صندوق للضمان الاجتماعي وتمويله بما يعادل أربعين مليار ريال سنويًّا.
وكان الهدف من ذلك إحداث شرخ عميق في العلاقة بين أبناء الشعب اليمني، بحيث يكون ارتباط الفقراء المحتاجين بالمانحين الممولين لصندوق الضمان الاجتماعي، وليس بالأغنياء الدافعين لأموال الزكاة.
فهذه الأموال تذهب للسلطة المحلية في غير محلها وفي غير مصارفها، والأجنبي أصبح -بتمويل صندوق الضمان الاجتماعي- هو أرحم بالفقراء والمساكين والمحتاجين من حكومة بلدهم ومن أغنياء بلدهم!
وقد كان يمكن للمانحين تمويل السلطة المحلية وترك مورد الزكاة خالصًا للمصارف التي حدّدها القرآنُ الكريم، لكن هدف المانحين كان ربط المحتاجين من الناس بهم وفصلهم عن حكومة بلدهم وعن المكلفين بالزكاة في مجتمعهم، ليسهل عليهم التحكم وتوجيه حركة الناس في الاتّجاه الذي يخدم أهدافهم.
واستمر الحال كذلك منذ سنة 2000 وحتى سنة 2018، حين أعادت حكومة الثورة الأمر إلى نصابه، ومورد الزكاة لمستحقيه.
ولم يختلف هدفُ الإدارة الأمريكية بالنسبة لتمويل الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي.
فالهدف ربطهم مباشرةً بالإدارة الأمريكية وفصلهم عن حكومتهم ومجتمعهم، لتتحكم مستقبلًا في تحَرّكاتهم بما يخدم أهدافها ومصالحها.