الموالاة والمعاداة بين الثوابت الدينية وتجليات الواقع العربي والإسلامي قراءة في محاضرة الشهيد القائد: الموالاة والمعاداة 

 

إعداد صادق البهكلي

في محاضرته “الموالاة والمعاداة”، التي ألقاها السيد حسين بدر الدين الحوثي في شهر شوال من العام 1422هـ، يطرح السيد مسألة تتجاوز الإطار النظري أو الفقهي إلى المجال العملي الذي يشكل وجدان الأمة ومواقفها السياسية والاجتماعية. يتناول السيد في محاضرته هذه قضية الموالاة والمعاداة، بوصفها حجر الأساس في العقيدة الإسلامية، ومؤشراً حاسماً على قبول العمل أو بطلانه. وتأتي أهمية هذا

 

الطرح في ظل الأحداث الراهنة التي تشهدها الساحة الإسلامية، خاصة بعد أن تحوّل عدد من الأنظمة العربية إلى شركاء استراتيجيين للولايات المتحدة والكيان الصهيوني في قضايا مصيرية، مثل تصفية القضية الفلسطينية، وضرب حركات المقاومة، وتهميش الخطاب الإسلامي الأصيل. يقول الشهيد القائد في بداية محاضرته: أحياناً عندما يكون هناك من هذه الأحداث ومن هذه القضايا في حياة الناس [التولي لليهود والنصارى] في الأخير تصبح الأشياء هذه [الصلاة والزكاة والصوم والحج والدعاء..] أحياناً لا يَعُدْ لها قيمة عند الله سبحانه وتعالى “، في إشارة إلى أن الأعمال التعبدية مثل الصلاة والصيام والحج قد لا تكون ذات قيمة إذا غاب عنها عنصر الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين.

 

يُبرز السيد حسين في تحليله خطورة اعتبار التولي مسألة هامشية أو عاطفية لا تمس صلب الإيمان. ويرى أن التولي للأعداء، خصوصاً اليهود والنصارى الذين وصفهم القرآن بالعداوة البينة، لا يؤدي فقط إلى بطلان الأعمال، بل إلى سلب هوية المؤمن ذاته. وهو ما أكده من خلال حديث مروي عن الإمام جعفر الصادق عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذ قال: “((لو أن عبداً صام نهاره وقام ليله وأنفق ماله عِلقاً عِلقا في سبيل الله، وعبد الله بين الركن والمقام حتى يكون آخر ذلك أن يذبح بين الر كن والمقام مظلوماً لما رفع إلى الله من عمله مثقال ذرة، حتى

 

يظهر الموالاة لأولياء الله والمعاداة لأعداء الله)) “. يعلق السيد على هذا الحديث بقوله: “هذا الحديث خطير… لأنه يجعل التولي هو الحد الفاصل الذي يحدد ما إذا كانت كل أعمالك ستُقبل أو تُرد”. وهذه المقاربة تسحب البساط من تحت أولئك الذين يحصرون الدين في الجانب الطقسي، وتعيد توجيه الأنظار إلى مركزية الموقف السياسي والأخلاقي في التصور الإيماني.

وفي سياقٍ أكثر خطورة، يُشير السيد الحوثي إلى أن من يتولاهم – أي اليهود والنصارى – يتحول إلى واحدٍ منهم، مستشهداً بالآية القرآنية: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}، ثم يضيف موضحاً: ” يصلي وهو يهودي، يسبّح وهو يهودي

 

وهكذا“. هذه العبارة، وإن بدت صادمة، إلا أنها تعبّر عن حقيقة قرآنية أن هوية المسلم ليست مرتبطة بالمظاهر أو الطقوس، بل بالولاء الفعلي والتوجه القلبي والاصطفاف العملي في مواقف الحق والباطل. بل يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يعتبر أن التحول في الولاء – ولو كان نفسياً – يمهّد لانسلاخ كامل عن منهج الإسلام، إذ يقول: (الموالاة هي حالة نفسية والمعاداة هي حالة نفسية، لكنها تتحول إلى مواقف وتنعكس بشكل مواقف، وتعتبر في حد ذاتها مهيئة لهذا الشخص ولهذا الشخص ولهذا الشخص ولمجاميع من الناس، من هم على وتيرة واحدة في الموالاة تُهيئ هذه الأرضية، أرضية صالحة لانتشار تَوَجُّه، وأعمال الجهة التي هم يوالونها سواء كانت جهة محقة أو مبطلة).

 

يرى السيد حسين أن أول خطوة في الانزلاق نحو معسكر الباطل تبدأ من النفس، ومن تغيّر نظرتها إلى أعداء الله. وهو ما يعكسه قوله: “الموالاة معناها: المعية في الموقف، المعية في الرأي، المعية في التوجه، المعية في النظرة“. وهذا يعني أن القضية ليست سياسية فقط، بل أخلاقية ونفسية قبل كل شيء. ومن خلال هذا التحليل، يربط السيد الحوثي بين الانحرافات السياسية في واقع الأمة وبين هشاشة المفاهيم العقدية لدى المسلمين، مؤكدًا أن الكثير من الانحراف يبدأ من التساهل في مفاهيم التولي والتبري، خاصة حين يتم تغليفها بمبررات دبلوماسية أو مصالح قومية أو حسابات واقعية بينما هي في حقيقتها انقلاب على جوهر العقيدة.

 

وتبلغ هذه الرؤية ذروتها حين يُسلط الضوء على مسؤولية الجماهير في مواجهة الأنظمة المنحرفة، مذكراً بكلام الإمام علي عليه السلام: “الراضي بعمل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضا به. وهنا يوضح أن السكوت والحياد في القضايا المصيرية لا يُعدّان موقفاً محايداً، بل هما موقف شراكة ضمنية مع الباطل. ويؤكد في هذا السياق: تصبح نفسك مهيأة لقبول مشاريعهم، لمناهجهم، لعناوينهم، وأنت ما تزال تصلي، وتصوم، وتذهب إلى الحج“. إن هذه الرؤية تُحطم أوهام كثير من المسلمين الذين يظنون أن أداء العبادات كافٍ للنجاة، وتدعوهم لمراجعة مواقفهم السياسية والفكرية وفق معيار الموالاة والمعاداة.

ومن أبرز ما يطرحه السيد الحوثي، هو البُعد الثنائي الذي يقسم به العالم إلى معسكرين: معسكر الله ومعسكر الشيطان. ويقول في هذا الصدد: “هؤلاء أولياء الله؛ لأنهم تولوا الله، أصبح الله هو وجهتهم، وأصبحوا في ساحة الله، وفي موقع اللهوهكذا في الجانب الآخر، أولياء الشيطان، تصبح نفسيته باتجاهه“. هذا التقسيم ليس دعوة للتشدد أو الإقصاء، بل وسيلة لفضح من يحاولون إخفاء اصطفافهم مع معسكر الباطل خلف شعارات دينية أو قومية زائفة. ففي عالم تتشابك فيه التحالفات وتُخلط الأوراق، تأتي محاضرته لتضع معياراً قرآنياً صافياً: من تولى أعداء الله، أصبح منهم، حتى وإن حافظ على بعض المظاهر الدينية.

 

وفي ضوء هذا الطرح، فإن محاضرة “الموالاة والمعاداة” لا تمثل فقط تأصيلاً عقدياً لمسألة الولاء، بل تشكل إطاراً تفسيرياً لتحليل كثير من الظواهر السياسية في العالم الإسلامي، مثل موجة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وانخراط بعض الأنظمة في مشاريع أمريكية تخدم أعداء الأمة. بل يمكن القول إن هذه المحاضرة تقدّم نظرية متكاملة للفرز السياسي والأخلاقي، تنطلق من القرآن والسنة، لكنها لا تبقى في حدود النصوص، بل تنزل إلى الميدان، وتطالب الجمهور باتخاذ موقف عملي. وبذلك، فإنها تسهم في تعزيز الوعي الجمعي لدى الشعوب المسلمة، وتعيد الاعتبار لثقافة المقاومة باعتبارها المظهر الأوضح للولاء لله ولرسوله.

 

إن هذه المحاضرة بما تحمله من مضامين عميقة، قادرة على إحداث تحول حقيقي في فهم الجمهور المسلم لمفهوم الإيمان ذاته، وتحفّزه لمراجعة مواقفه من الأنظمة والأحزاب والمؤسسات التي تروّج للتطبيع، وتبرر التحالف مع أمريكا وإسرائيل. ومن المتوقع أن تلقى هذه المحاضرة صدى واسعاً في الأوساط الإسلامية الرافضة للهيمنة والاستكبار، خاصة في اليمن ولبنان وفلسطين، حيث يشكل الوعي العقدي ركيزة أساسية للموقف السياسي. كما أنها تمثل رداً عقائدياً وواقعياً على محاولات  تذويب الفوارق بين الحق والباطل، ودعوات التعايش مع المحتل والغاصب.

 

وفي ظل اشتداد المعركة الإعلامية والثقافية على هوية الأمة، فإن محاضرات من هذا النوع، التي تمزج بين النص القرآني والتحليل السياسي، وبين العقيدة والواقع، تكتسب أهمية مضاعفة، ليس فقط في الرد على الخصوم، بل في بناء حصانة فكرية وروحية تُمكّن الأمة من الصمود والثبات.

في هذا التقرير سنحاول تناول ما تيسر من المفاهيم والرؤى التي تناولها الشهيد القائد رضوان الله عليه في هذه المحاضرة:

 

 

أولاً: سياق الصراع العقائدي والسياسي الراهن:

يضع السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) في محاضرته “الموالاة والمعاداة”  يده على الجرح الغائر في جسد الأمة، ويعيد ضبط البوصلة الإيمانية في زمن اختلطت فيه المفاهيم وتشوهت فيه القيم.

هذه المحاضرة، بما تحمله من عمق قرآني ووضوح في الموقف، تمثل استدعاءً صريحًا لمبدأ قرآني غُيّب عمدًا لصالح مواقف سياسية رخوة وتحالفات ملوثة بدماء الأبرياء، وهي بذلك تكتسب أهمية مضاعفة في ظل ما تعيشه الأمة من موجة تطبيع جارفة، وتحالفات عربية علنية مع العدو الصهيوني، وتماهٍ واضح مع السياسات الأمريكية.

يشير السيد حسين بدر الدين الحوثي في مقدمة محاضرته إلى حجم الخلل الفكري الذي أصاب الأمة بسبب التلاعب بالمفاهيم، ويؤكد الحاجة إلى فهم معنى الموالاة لله ولرسوله وللمؤمنين، ومعرفة كيف أن هذه الموالاة هي جزء من الدين، وأنها ليست حالة مزاجية أو سياسية أو اجتماعية فحسب، بل هي موقف إيماني لا ينفك عن حقيقة الإسلام.

وبمثل هذا التوصيف ينقل القضية من إطارها السياسي البحت إلى إطار إيماني يجعل من الموقف تجاه الأعداء معيارًا للعقيدة ذاتها.

لقد جاءت هذه المحاضرة كوثيقة وعي، قدم فيها معاني الموالاة والمعاداة وفق النص القرآني، وفضح من خلالها مظاهر التبعية العمياء لأعداء الأمة.

وهي على الرغم من مرور أكثر من عشرين عام على القاءها ما زالت تواكب الأحداث الراهنة، حيث تتسابق أنظمة عربية لفتح بوابات التطبيع، وتبرير ذلك بخطابات “المصالح” و”السلام”. لكن السيد حسين فضح هذا الانحراف لمن يتولى أمريكا أو يتولى إسرائيل، و يبرر ذلك باسم المصلحة، ((حكى الله عمّن يتولى اليهود والنصارى أنهم يطلقون عناوين تشعر بأن المسألة إنما هي تدارك لخطورات معينة, والمسألة حفاظ على مصلحة الوطن , والمسألة هي كذا وكذا {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}.

هم لا يقولون لك: أصدقاءنا ولازم نوقف معهم, يقولون للناس: نخشى أن تصيبنا دائرة, نحن فقط من أجلكم, وحفاظاً على مصالحكم, والواقع ليس ذلك, والواقع ليس ذلك, ما يمكن أن يكون هذا الموقف صحيحاً إطلاقاً أن يتحول زعماء العرب إلى مدراء أقسام شرطة

 للحفاظ على مصالح أمريكا وإسرائيل وإسكات من يتكلم ضدها)).

هذا المنطق برسم السيد حسين يعتبر خيانة للدين قبل أن يكون خيانة للأمة، لأنه نقضٌ صريحٌ لعهد الله ورسوله.”

 

في هذا السياق، تبدو المحاضرة وكأنها صرخة في وجه هذا الانحراف الكبير، وتعيد تعريف مفاهيم الموالاة والمعاداة لا بناءً على الانتماء الجغرافي أو العرقي، بل على قاعدة قرآنية صلبة تُفرّق بين أولياء الله وأعدائه. إنها تضع الحُكم الحقيقي في أيدي المؤمنين، وتقول لهم: انظروا من توالون، وعلى أي جبهة تقفون، ومن تخدمون بمواقفكم.

هذه المحاضرة تشكل بيان مواجهة فكرية، وموقف إيماني راسخ، ودعوة صريحة للفرز الواضح بين جبهتي الحق والباطل في زمن الغموض والخداع السياسي. فهل ما زالت الأمة تملك الشجاعة لتقف حيث يجب، وتوالي من يجب، وتعادي من أمر الله بمعاداته؟

 

ثانياً: مفهوم الموالاة والمعاداة في الرؤية القرآنية:

تأصيل المفهوم من منطلق إيماني وخطورة التحالف مع أعداء الأمة

تبدأ محاضرة السيد حسين بدر الدين الحوثي بتفكيك المفهوم الجوهري للولاء والعداء، لا باعتباره اختيارًا سياسيًا مرنًا أو تحالفًا ظرفيًا، بل باعتباره ركنًا من أركان الإيمان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالانتماء لله ورسوله والمؤمنين. ومن هنا، يطرح السيد معادلة واضحة لا لبس فيها: الموالاة والمعاداة في القرآن الكريم معيار دقيق يفصل بين المؤمن والمنافق، وبين من يريد الله ومن يريد الطاغوت.” هذا التأصيل لا يترك مجالًا للرمادية، ولا يعترف بمنطقة وسطى بين الولاء لخط الله والاصطفاف مع أعدائه.

يركز السيد في تحليله القرآني على أن الموالاة ليست حالة عاطفية، بل هي موقف عملي يعبر عن نفسه في التبعية السياسية، وفي الدعم المادي والمعنوي، وفي الانحياز الكامل للجهات التي تنسجم مع مشروع الله في الأرض، أو تلك التي تناوئه. ويؤكد أن القرآن الكريم لا يتعامل مع اليهود والنصارى كأصدقاء محتملين، بل كأعداء لا يؤتمن جانبهم، انطلاقا من قول الله في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}(المائدة51) أليس الله هنا يخاطب مؤمنين؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}؟ قال: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} منكم أيها المؤمنون {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يصبح حكمه حكمهم، فيكون هو يصلي وهو يهودي، يسبح وهو يهودي، يصوم وهو يهودي، يزكي وهو يهودي.. وهكذا.. إلى آخر العبارات. ويُبنى على هذا الفهم موقفٌ سياسي واضح، لا مكان فيه للتقارب مع من يحاربون الله ورسوله، مهما تم تزيينه بمصالح أو مصالحات“.

 

وفي سياق تحذيره من التلاعب بالمفاهيم، يورد السيد نصًا مهمًا من كلام الإمام علي عليه السلام : (التولي، الإمام علي له كلمة في الموضوع: ((إنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود واحد فعمهم الله بالعقوبة جميعاً)) بسبب أن واحدًا عقر الناقة يمثلهم وهم راضين بعمله ومصوبين لعمله فأصبحوا جميعاً مستحقين للعقوبة، أيضاً يقول عليه السلام: ((الراضي بعمل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضا به)).

 

فحين توالي أمريكا وإسرائيل، فهذه الموالاة تساوي تمامًا خروجك من ولاية الله ورسوله، لأنها موالاة لأعدائهما، ولمن يحاربون الإسلام.” هذا الطرح يضع المسلم أمام اختبار مصيري، إما أن يكون ضمن جبهة المؤمنين، أو أن ينزلق — بوعي أو بدون وعي — في خدمة جبهة الباطل، وهو ما يجعل من هذا المفهوم حدًا فاصلًا بين الإيمان والنفاق، لا مجرد اجتهاد سياسي.

ويشير السيد إلى أن القرآن الكريم لم يطرح الولاء والعداء كقضايا منفصلة عن العقيدة، بل جزء من تركيبة الهوية الإيمانية. لان قضية الولاء والبراء ليست فرعًا من فروع الدين، بل هي في صلبه، لأنها تعبر عن موقفك تجاه الله وتجاه أعدائه، فلا يمكن أن توالي من يحارب الله وتدعي أنك تحبه. هنا يظهر البعد العقدي لمفهوم الولاء، ويتضح أن الموقف منه يعكس إما صفاءً في الانتماء أو تلوّثًا في العقيدة.

إن هذا التأصيل يعيد بناء الوعي الإسلامي في زمن أُريد له أن يُختزل في الشعائر فقط، مع تعطيل تام للمواقف والمفاهيم الكبرى. السيد حسين ، من خلال هذه المحاضرة، يعيد الحياة لآيات كثيرة تم تجاهلها عمدًا، ويستحضرها في سياق سياسي حاضر، ليقول: إن خيانة المفاهيم ليست أقل خطرًا من خيانة الدم.

فحين يُبدَّل معنى الولاء، تُبدَّل بوصلة الأمة بأكملها، وتُقاد من حيث لا تدري إلى أحضان أعدائها.

 

ثالثًا: الموالاة في الواقع المعاصرإسقاطات المحاضرة على أنظمة التطبيع:

يربط السيد حسين بدر الدين الحوثي ( رضوان الله عليه) بين المفهوم القرآني للموالاة، وبين الممارسة السياسية الواقعية للأنظمة العربية والإسلامية في العصر الحديث، ليكشف مدى التناقض الصارخ بين الانتماء الظاهري للإسلام، والانخراط الفعلي في محور أعدائه.

لا يتردد السيد في تسمية الأشياء بأسمائها، ولا يكتفي بالتحليل النظري، بل يتجه مباشرة نحو الوقائع المعاشة، ليصف صراحة الأنظمة التي تبرر علاقتها بأمريكا وإسرائيل بأنها متورطة في خيانة مكشوفة.

مبينًا أن كثيرًا منها قد تجاوزت حدود التواطؤ السياسي إلى موالاة صريحة لأعداء الله ورسوله.

إن أخطر ما يكشفه السيد هو انقلاب المفاهيم داخل الواقع الرسمي العربي، حيث لم يعد يُنظر إلى أمريكا وإسرائيل كأعداء، بل أصبح الجهاد ضد هيمنتهما يُصنّف كإرهاب. ويقول في هذا السياق:

معلوم بأنه في عقائدنا ما يتجه نحو أمريكا، نحو اليهود والنصارى هو يسمى في مصطلحنا في غالبه، يسمى الجهاد، تحت عنوان جهاد، فالجهاد في الإسلام هو نفس الإرهاب الذي أمريكا تريد أن تقود العالم كله لمقاومته…”

وهنا يكشف السيد عن المفارقة المريرة: ما كان يُعتبر قتالًا مشروعًا في سبيل الله أصبح الآن يُجرّم ويُحارب باسم “مكافحة الإرهاب”، بينما تُغضّ الأنظمة الطرف عن جرائم أمريكا وإسرائيل وتستمر في التعامل معهما كحلفاء. ويضيف في موضع آخر:

الخطورة هنا: مقاومة الإرهابأي مصالح أمريكية، أي غرض أمريكي يتعارض معه أي نشاط يمس بأهداف أمريكا ومصالح أمريكا يعتبر إرهاباً.”

في هذا التشخيص يتجلى المعنى الحقيقي للموالاة، حيث تتحول العلاقة مع العدو من مجرد تعاون أو تنسيق، إلى انخراط كامل في مشروعه، واعتناق لرؤيته، بل ومحاربة كل من يعاديه. وهنا يستدعي السيد الآية القرآنية المحكمة: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}، ليؤكد أن هذه الموالاة ليست مسألة سياسية قابلة للتأويل، بل موقف عقائدي يحدد مصير الأمة وأفرادها.

بهذا الربط بين النص القرآني والواقع السياسي، يكشف السيد كيف أصبحت الموالاة اليوم ثقافة رسمية تُسوّق من خلال الإعلام، وتُدرّس في المدارس، وتُفرض في السياسات العامة، ما يؤدي إلى حرف الأمة عن انتمائها الإيماني، وتحويلها إلى أداة في يد أعدائها.

 

 

 

رابعاً : الإعلام الرسمي وشرعنة الموالاةصناعة التزييف عبر الخطاب الموجّه:

ينبّه السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) إلى دور الإعلام الرسمي في الأنظمة العربية كأداة فعالة في تطبيع الموالاة لأعداء الله، وتحويلها من حالة شاذة إلى خيار شرعي ومقبول لدى العامة. لا يكتفي السيد بالكشف عن مظاهر الانحراف السياسي، بل يغوص في جذوره الثقافية والفكرية التي تصنعها مؤسسات الإعلام والتعليم والخطاب الديني الرسمي.

في هذا السياق، يشير السيد إلى الطريقة التي يتم بها تزييف المفاهيم وتفريغ المصطلحات القرآنية من مضامينها الثورية، حتى يصبح الجهاد مدانًا، وتُصبح الموالاة نوعًا من “الحكمة” السياسية. يقول في تشخيصه لخطورة هذا الانحراف:

(تجد أبرز شيء في هذه المسألة والإنسان يتابع التلفزيون، ويتابع الرادي، يتابع الأحداث أن تفهم بأن أي موقف تتبناه أمريكا أو إسرائيل أو اليهود أن تجعل نفسك من داخل ضده وإن رأيتهم يضربون شخصاً يعجبك تحت عنوان مفتوح، الخطورة هنا: مقاومة الإرهاب، قالوا: ما هو الإرهاب يطلب منهم الزعماء فَسِّروا لنا الإرهاب! أصبحت أمريكا تملك حتى تفسير المصطلحات! أليست كلمة إرهاب كلمة عربية؟ يريدون أن يفسرها بوش الإنجليزي الذي لغته إنجليزية! الإرهاب في اللغة كذا، كذا..

عارفين ماذا يعني إرهاب، هم فاهمون ماذا يعني إرهاب: أنه أي مصالح أمريكية أي غرض أمريكي يتعارض معه أي نشاط يمس بأهداف أمريكا ومصالح أمريكا يعتبر إرهاباً. ومعلوم بأنه في عقائدنا ما يتجه نحو أمريكا، نحو اليهود والنصارى هو يسمى في مصطلحنا في غالبه، يسمى الجهاد، تحت عنوان جهاد، فالجهاد في الإسلام هو نفس الإرهاب الذي أمريكا تريد أن تقود العالم كله لمقاومته، الجهاد بالسيف، الجهاد بالكلمة، الجهاد بالموقف، هذا كله، تجند كل إمكانياتها تحت مسمى أن هذا هو إرهاب).

 

يتحدث هنا عن الانقلاب القيمي الذي يُحدثه الإعلام، حين يُلبس الحق بالباطل، ويُشيطن المقاوم ويُبرئ المحتل. بل الأخطر من ذلك أن هذه الأنظمة – من خلال إعلامها – تضع الناس في حالة خلط دائم بين الإيمان والنفاق، بين الحق والباطل، حتى يفقد الجمهور بوصلته الدينية والسياسية.

ويؤكد السيد أن هذا التضليل لا يتم صدفة، بل هو جزء من استراتيجية مدروسة تهدف إلى تطويع الشعوب وتأهيلها نفسيًا لتقبل العلاقة مع العدو، وذلك بقوله:

الخطورة في المسألة في الزمن هذا انتشرت الوسائل الكثيرة التي تقدر على تحويل الناس، وكلها تتركز، كل وسائل الإعلام، كل الأشياء هذه تتركز إلى خلق ولاء وعداء يكون خلاصتها حتى عندما يحاولون أن يكون المنهج الدراسي على نحو معين، ونشاط وزارة الثقافة على نحو معين، والتلفزيون والإذاعة نشاطها على نحو معين كله يصب في هذه النقطة: هو لتهيئة النفوس بالشكل الذي يمكن أن تكون معه تتولى هذا الخط وتعادي هذا الخط، تتولى هذه الفئة وتعادي هذه الفئة. هذا كل ما تدور حوله هذه الوسائل الإعلامية والتربوية، والتثقيفية، ومن أجل هذه النقطة تبذل ملايين ملايين الدولارات من أجل خلق ولاءات وعداوات.

هذه الفقرة تلخص ببساطة مدى خطورة الإعلام الموجه، حين يصبح أداة لتزييف الموقف الإيماني، ويحوّل المفاصلة العقدية إلى توافق سياسي. وهو ما يجعل السيد يؤكد في أكثر من موضع أن المعيار الحقيقي للولاء لا يُقاس بالشعارات، بل بالمواقف العملية التي تحدد مع من يقف الإنسان: مع أولياء الله أم مع أعدائه.

وبهذا الطرح، يفتح السيد ملفًا مسكوتًا عنه في العالم الإسلامي: كيف تتحوّل وسائل الإعلام الرسمية إلى منابر للخداع، لا لحماية الدين، بل لشرعنة الخيانة وتجميل صورة العدو. وهو ما يتطلب – بحسب رؤيته – وعيًا جماهيريًا قرآنيًا يستطيع التمييز بين الحق والباطل، ويكشف التزييف في الخطاب الموجه.

 

خامساً: كيف نواجه مشاريع الإفساد والتبعية؟

 

أمام ما نشهده اليوم من تحديات جسيمة ومرحلة مفصلية وتصاعد المؤامرات العدوانية من قبل أعداء أمتنا، يبرز سؤال جوهري: ما هو دور المسلمين في مواجهة هذه الهجمة؟ وهل يجوز الصمت والتغاضي عن المخاطر التي تهدد الدين والقيم والمجتمعات من الداخل والخارج؟

 

إن من غير المقبول – كما أكد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) – أن يقف المسلم موقف المتفرج، بينما تتعرض عقيدته ومصالح أمته للعدوان المباشر وغير المباشر من قِبَل أعداء الإسلام، وعلى رأسهم اليهود والنصارى الذين يسعون لتقويض كل ما يمت للإسلام بصلة. فالله تعالى أمر بفضح الشيطان ولعنه، ودعانا إلى اتخاذه عدواً، فكيف بمن يتبعون طريقه ويجعلون من العداء للإسلام مشروعاً معلناً وسياسة ثابتة؟

 

يقول السيد حسين الحوثي رضوان الله عليه:

ليس صحيحاً إطلاقاً ولا يمكن إذا كان الناس مسلمين أن يسكتوا على هذا الشيء، أن يصل الناس إلى درجة أن يروا اليهود والنصارى يفسدون كل شيء، ويحاربون كل شيء من ديننا، وقيمنا، ومصالحنا، وخيراتنا، ثم لا يجوز أن نتكلم فيهم، الباري قد قال لنا نتكلم في الشيطان، قال: إلعنوه، إتخذوه عدواً، على الأقل تنفس عن نفسك.

 

المشكلة لا تكمن فقط في العدو الظاهر، بل في أولئك الذين يتولونهم من داخل الأمة، يبررون سياساتهم، ويمهدون الطريق للاختراق الثقافي والفكري والاجتماعي. هؤلاء هم الأخطر، لأنهم يلبسون الباطل لبوس المصلحة، ويخدعون الناس بمفاهيم مغلوطة عن السلام والتعايش، بينما هم في الحقيقة يسهمون في تدمير وعي الأمة وتفكيك بنيتها الأخلاقية والفكرية.

 

ويكشف السيد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه عن خطورة هذا التهاون، قائلاً:

من تلمس منه رائحة الولاء لليهود والنصارى يجب أن تحمل له روح العداء، يجب أن تحمل له روح العداء، في كل مشاعرك، وداخل أعماق نفسك، العداء الإيجابي، العداء الساخن، كل من تلمس أنه يوالي اليهود والنصارى، كل من تلمس بأن منطقه وإن كان منطق تحت عناوين أخرى: مصلحة كذا وكذا، يجب أن تحمل له روح العداء، وأن ترد عليه أن هذا غير صحيح، فليضربونا أشرف لنا، أن يضربونا ولا أن نأتي نحن نُضرب من داخلنا.

 

كما يوضح رضوان الله عليه أن العدو يسعى لزرع الانقسام بين أبناء الأمة، تماماً كما حدث في فلسطين، حيث تحوّلت السلطة إلى أداة في يد الاحتلال، تستهدف المجاهدين بدلاً من مقاومة العدو المشترك. ويقول في هذا السياق:

إسرائيل تريد أن تصل بكل بلد عربي إلى مثل ما وصل إليه فلسطينتريد ما يحصل في فلسطين أن يحصل في كل بلد، وتريد ما تفرضه على ياسر عرفات أن تفرضه على كل زعيم عربي.”

 

ويحذر السيد رضوان الله عليه من أن الفساد لم يعد مجرد انحراف شخصي، بل أصبح وسيلة خطيرة تخدم أعداء الأمة، حيث يقول:

عندما تفسد ابنك ستـطلع ابنك جندي إسرائيلي، يخـدم إسرائيلالآن فسادك يحولك إلى جندي تخدم إسرائيل، ومصالح إسرائيل، زوجتك، بنتك تتحول نفس الشيء بإفسادها إلى امرأة تخدم بفسادها النفسي إسرائيل.”

 

في ظل الأحداث الراهنة، لم يعد مشروع التهويد مقتصراً على فلسطين فحسب، بل بات واضحاً أن الطموح الصهيوني يمتد للهيمنة على كامل المنطقة العربية والإسلامية، سياسياً وثقافياً واقتصادياً. فالمؤامرة اليوم لم تعد خفية، بل تُنفذ تحت مرأى ومسمع العالم، وبمباركة أنظمة عربية تقف في صف العدو، وتوالي اليهود والنصارى على حساب كرامة الأمة ومقدساتها، متخلية عن مسؤولياتها الدينية والتاريخية.

 

إن ما نشهده من تطبيع مفضوح، ومن تحالفات سياسية وعسكرية مع الكيان الصهيوني، يؤكد أن المعركة لم تعد فقط مع عدو خارجي، بل مع أنظمة باتت تشكل غطاءً شرعياً لمشاريع الاحتلال، وتعمل على تجريم المقاومة، وتكميم أفواه الأحرار، وتشويه من يقف في وجه الغطرسة الأمريكية والإسرائيلية.

 

وفي هذا الواقع المظلم، تزداد أهمية المحاضرات التي قدمها السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)، ومنها محاضرة [الموالاة والمعاداة ] التي هي بمثابة صرخة وعي وبصيرة، تدعونا إلى رفض الخنوع، وإحياء روح العداء الواعي والجاد تجاه المشروع الصهيوني وأدواته. لم يعد الصمت خياراً، ولا الحياد مبرراً، فكل لحظة تمر في ظل هذا التخاذل، تُمكِّن العدو أكثر، وتُضعف ما تبقى من حصون الأمة.

 

إن مسؤوليتنا اليوم أن نعيد بناء جدار الوعي، وأن نحصن أنفسنا وأهلنا من الاختراق الثقافي والفكري والإعلامي، وأن نربي أبناءنا على الولاء لله ورسوله و أعلام الهدى، وعلى البراءة من أعدائه، وأن نرفض كل أشكال التطبيع والتبعية، وأن نكون في صف المستضعفين والأحرار، لا في صف الطغاة والمحتلين.

فإما أن نكون أمة حرة، تأبى الضيم والذل، وتصون أرضها ودينها وكرامتها، أو نُترك فريسة لمشروع صهيوني لا يعترف إلا بالقوة، ولا يتوقف عند حدود.

وما النصر إلا من عند الله، والعاقبة للمتقين.

قد يعجبك ايضا