يواصل ترامب ونتنياهو، وهما وجهان لعملة واحدة، العدوان على الشعبين اليمني والفلسطيني بلا مبرر . وما تكشف عنه هذه العنجهية والبطش الوحشي، هو تصور كل منهما بأن الزمن زمنه لصنع الفوضى في العالم كيف يشاء متوهما الوصول من خلال ذلك إلى واقع استثنائي لمجتمعه يخلد به أو من خلاله اسمه في التاريخ.

ما يقوله الواقع اليوم بعد عام ونصف من العدوان على غزة واليمن أن كلاهما أثبتا أنهما لا يفقهان في الإدارة السياسية أو العسكرية شيء لكنهما يتفوقان في التعامل المنفلت ونهجهما في القتل والتنكيل واللجوء إلى كل الوسائل غير المشروعة لتمرير مخططات وتحقيق أهداف غير مشروعة.

في الأراضي المحتلة ذهب الكيان الصهيوني إلى ممارسة جريمة الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة بينما التزم له العدو الأمريكي بالدعم الكامل بالسلاح وبالحماية من الهجمات اليمنية التي تشكل اليوم الخطر المؤرق لهما.

وفي الشارع الأمريكي تتراكم الشواهد المؤكدة على خيبة اجراءات سلطة واشنطن لإرهاب اليمنيين ودفعهم إلى التوقف عن إسناد غزة.. النتائج ظهرت على عكس ما كان يطمح لها ترامب وقبله بايدن ومن خلفهم مجلس اللوبي الصهيوني الذي يُدير الولايات المتحدة، فالقرار اليمني الحاسم بحظر الملاحة الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية في البحر الأحمر ألقى بآثاره الاقتصادية السلبية على المؤسسات التجارية وعلى اقتصاد ومعيشة المواطن داخل هذه الكيانات، إذ يخلو البحر الأحمر اليوم من السفن الإسرائيلية والأمريكية البريطانية، وتؤكد الصحيفة العبرية جيروزاليم بوست مرور عام منذ عبور آخر سفينة تحمل العلم الأمريكي في البحر الأحمر. ما يعني خلل في سلاسل الإمدادات الأمريكية ناهيك عن تعاظم كلفة نقل المواد الأمريكية من مسارات بحرية بعيدة.

وفي شوارع أمريكا وأوروبا تُبين التظاهرات والاحتجاجات تصاعد الرفض لحالة الفوضى التي تتسبب بها أمريكا تحديدا، في العالم، بينما قيادة واشنطن تحاول فبركة انتصارات وهمية لاقناع المواطن أن أمريكا لا تزال الأقوى.

الشعب الأمريكي يخسر بالفعل الكثير من رفاهيته ومن سمعته كقوة عظمى وكحامية حسب مزاعم الساسة الأمريكان لحقوق الإنسان، فترامب يقود هذا الشعب إلى الانتحار من أجل ضمان أمن “إسرائيل” ولا يزال يخسر.

أكثر من (1200) غارة ونسبة الانجاز صِفر

يكفي إلقاء نظرة ولو خاطفة على ما تنجزه أمريكا اليوم بقوة النار سواء من خلال دعمها للكيان الصهيوني لإبادة الشعب الفلسطيني، أو في عدوانها المباشر على المدنيين وبُنيتهم التحتية في المحافظات اليمنية، ليتبين أنها بالفعل أصبحت في مستوى خطير من التوحش على البشرية، خصوصا وأنها تشجع الكيان على جرائمه في غزة بينما تستهدف هي في اليمن الأحياء السكنية والأعيان المدنية، ثم تكذب على شعبها بالحديث عن تدمير القدرات العسكرية سواء للمقاومة الفلسطينية أو القوات المسلحة اليمنية الداعمة للشعب الفلسطيني. وفيما تعلن الدوائر السياسية والعسكرية الأمريكية عن نجاح في قواتها في تدمير ترسانة القوات المسلحة، يأتي الرد كالعادة بالمفاجآت الصادمة.

أكثر من (1200) غارة شنتها أمريكا على اليمن، ضحيتها عشرات الشهداء وعشرات المصابين وكلهم مدنيين، وتدمير المنشآت، أما نسبة الانجاز من الهدف المحدد فتساوي صفر.

يؤكد ذلك، التسليم من قبل إعلام العدو سواء داخل كيان الاحتلال أو الولايات المتحدة، بأن الإسناد اليمني يثبت قوة استثنائية وبات يشكل بالفعل معضلة لأمريكا و”إسرائيل”، كما يقر بذلك العدو الإسرائيلي خاصة بعد الصاروخ اليمني الذي وصل اليوم إلى مطار اللد “بن قوريون”.

صحيفة جيروزاليم بوست عبرت بأسف عن حالة الاحباط من الوضع الذي ظهرت عليه القوة الأمريكية في القيام بما وعدت به بشأن تدمير القدرات العسكرية اليمنية، وباتت بحاجة لمبرر يحفظ ماء وجهها كي تنسحب من المعركة بسلام، وتؤكد الصحيفة العبرية أن “تقييمات الاستخبارات الأمريكية تبيّن أن البنية الصاروخية ومنظومة القيادة والسيطرة لليمنيين لا تزال سليمة إلى حد كبير”، وتقول: “الحملة الأمريكية على اليمن استنفدت الموارد الأمريكية لا سيما مع استنفاد كميات كبيرة من الأسلحة بعيدة المدى”.

على هذا النحو يتلاشى عامل الثقة في الوسط الإسرائيلي من قدرة أمريكا على عمل شيء مؤثر يمنع عنهم الهجمات اليمنية ويرفع عنهم حصار القوات اليمنية البحري، كما هو الحال في الشارع الأمريكي الذي بدأ يتأثر من هذا الحصار..

وإلى جانب الأثر الاقتصادي السلبي نتيجة قرار الحظر اليمني، واستنزاف القدرات الأمريكية لجهة السلاح والتمويل والجهد البشري والوقت، هناك أيضا المعطيات التي تخفّض من مستوى التفاؤل بمستقبل واعد للأمريكيين كما وعد به ترامب، وفي هذا السياق يقرّ معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، بأن الإمدادات العسكرية الأمريكية مهددة مع الحظر اليمني في البحر الأحمر.

وقال المركز في تقرير إن اليمن يعرقل قدرة أمريكا على نشر قواتها وإدارتها لمسرح العمليات بسرعة، موضحاً أن 80% من مواد الدفاع الأمريكية تنقل عبر الشحن التجاري المهدد بهجمات اليمن. واضاف أن “خيارات النقل العسكري الأمريكي بين مُكلفة أو مُعرضة للخطر بسبب العمليات اليمنية، وأن النقل الجوي بديل مُكلف ومحدود ولا يغني عن النقل البحري المُهدد بهجمات من اليمن”.

امريكا توقع نفسها في الفخ اليمني

مرة أخرى أساءت الإدارة الأمريكية التقدير بتصورها إمكانية الحسم السريع في العدوان على اليمن، فبعد مرور شهر ونصف هاهي تبدو أضعف من أن تكرر نفس العبارات التي خدّرت بها الحلفاء في المنطقة، وكذلك كان الحال حين كانت المخطط والمشرف والداعم بالمعلومات لتحالف العدوان.

تقول شبكة سي إن إن: كنا نأمل تحقيق تفوق جوي باليمن خلال 30 يوما وإضعاف الدفاع الجوي لـ “اليمنيين”. وتنقل سي إن إن عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن “قدرة اليمنيين وعزمهم على ضرب السفن الأمريكية والتجارية وقصف إسرائيل لم تتغير كثيرا” وإن ‘القصف المستمر منذ 6 أسابيع لم يؤثر على قدرات القوات اليمنية ولا بُنية القيادة والتحكم لديهم”.

اليوم وأمريكا تزداد تورطا في الفخ الذي أوقعت نفسها فيه بدافع من الغطرسة ووهم القوة التي لا تُهزم، بات عليها حتما شراء استشارات الخبراء كما اعتادت أن تفعل ببيع الاستشارات، لربما يجد لها المستشارين مسارا للخروج من هذه الورطة، رغم أن حبل النجاة قريب وليس بحاجة لإراقة ماء الوجه أكثر، وهو إيقاف العدوان السافر على غزة وإدخال المساعدات وإعادة إعمار ما دمرته آلتها العسكرية التي دعمت به الكيان الإسرائيلي.

أما الاستمرار في شن الهجمات على اليمن فأمر لا طائل منه ولا معنى له إلا إطالة عمر المواجهة وبالتالي مزيد من الاستنزاف، فالصواريخ التي يتم إطلاقها لرد الطائرات المسيرة أو الصواريخ الباليستية اليمنية يكلف كل منها اثنين مليون دولار، والطائرات التجسسية، تم إسقاط سبع منها خلال شهر واحد فقط وتكلفة كل منها يصل إلى الثلاثين مليون دولار، فضلا عن كلفة الهجمات التي تشنها الطائرات الأمريكية على الأحياء السكنية في اليمن. يقول كبير استراتيجيي  البيت الأبيض ومستشار رئيس الولايات المتحدة سابقًا ستيف بانون.. أمريكا بكل ما تملكه من ترسانة عسكرية “طائرات وفرقاطات وحاملات طائرات ” فشلت في حملتها على اليمن وخسرت في تحقيق أهدافها أمام القدرات اليمنية.

ستيف بانون الذي شبّه ما يجري لأمريكا في اليمن من هزائم متتالية وخسائر بما جرى لها في حربها الخاسرة في فيتنام واعتبر  ما يفعله اليمنيون في البحر الأحمر وما تواجهه البحرية من فشل واخفاقات أمام القدرات اليمنية  بمثابة “إسقاط القوة الأمريكية”.

سقوط أسطورة التجسس الأمريكية

بالحديث عن حالة العمى التي تعانيها أمريكا في اليمن، حيث تتساقط أفضل طائراتها التجسسية على أيد الدفاعات الجوية اليمنية، تتعزز قناعة الخبراء الدوليين بأن أمريكا تعيش أسوأ مراحلها منذ ظهرت على وجه الأرض بسبب الفضيحة المدويّة للقوة التي أرهب العالم طويلا.. تؤكد شبكة سي إن إن عن مسؤولين أمريكيين أن نجاح الدفاعات الجوية اليمنية في إسقاط طائرات MQ-9 الأمريكية، أثر بشكل كبير على الجيش الأمريكي، وأفشل محاولات تكثيف الاستخبارات والاستطلاع الجوي، ما أدى إلى عرقلة الانتقال للمرحلة الثانية من الحملة العدوانية الجوية على اليمن. ويقول موقع “The War Zone” الأمريكي المتخصص في الشؤون العسكرية: أثبت “الحوثيون” امتلاكهم ترسانة دفاع جوي تشكل تهديداً حقيقياً كما يتضح من العدد المتزايد لحالات إسقاط طائرات “MQ-9” الأمريكية.

وتنقل السي إن إن عن المسؤولين الأمريكيين قولهم: أنصار الله أصبحوا أكثر براعة في استهداف طائراتنا المسيرة من طراز إم كيو 9″ قالوا “الخسائر المستمرة للمسيرات صعبت علينا تحديد نجاح تدمير أسلحتهم بدقة.”

منهجية متوحشة وعدمية

لاشك بأن استمرار العدوان بهذه المنهحية المتوحشة والعدمية إنما تؤكد فقدان السيطرة على الذات وتراجع حالة الاتزان العقلي، ما يجعل من الفعل الاجرامي المستمر ترجمة حرفية للدخول في مرحلة التوهان والسير بلا هدى وهي التي -عادة- تسبق نقطة السقوط في الهاوية.

ويؤكد التمادي في العمليات الهجومية ضد الأعيان المدنية أن العدو الأمريكي لا يزال على عقليته الأولى حين حقق أول هدف باحتلال أراض الهنود الحمر من أجل القطعان الأوروبيين من الفارين من الملاحقات القانونية بالقتل والبطش، بأن القوة هي الأداة الوحيدة الكفيلة بتحقيق الأهداف، بغض النظر عن طبيعة هذه الأهداف، فمجرد تحقيقها لكون أمريكا تقف خلفها هو في ذاته انجاز لها، لكنها لم تستفد من حروبها الأخيرة التي لم تجلب لها سوى كراهية الشعوب، وتوثيق أعمالها في السجل التاريخي الأسود ضمن فئة قطّاع الطرق والعصابات الإجرامية ولكن بدرجة دولة.

أمريكا لا تفعل شيء ايجابي للبشرية بقدر ما تحاول أن تغذّي شعبها من دماء الشعوب الأخرى، واشتغالها كله على الخروب والسلاح وإرهاب دول العالم واستهدافها بالاحراءات العقابية والاقتصادية بلا أي مبرر سوى حب الذات، ولذلك هي اليوم في أسوأ حالاتها لجهة مكانتها بين بقية دول العالم، وهذا نتاج طبيعي لحالة الاستقواء، وتغليب منطق السلاح أو الاجراءات الحمقاء في التفاهم مع الآخرين.

قوة الحق أعظم من قوة السلاح

الأولى بالشعب الأمريكي أن يقدم نموذجا لحضاريته ورغبته لإعلاء قيم التعايش مع بقية العالم، فالمستقبل الأمريكي يبدو من سلوك ترامب قاتما، والخاسر فيه هو الشعب الأمريكي نفسه ولا غيره، أما ترامب فولايته أربع سنوات، وليس من المنطق أن يظل الأمريكيين يدفعون ثمن تجارب قادتهم في ترويض العالم، أو ثمن تصورات المجلس الصهيوني داخل أمريكا بأن خلق الفوضى وإشغال العالم هو ما يضمن لها الأمان، وهي مسألة تبدو ساذجة بالنظر إلى انحسار تأثير القوة في فرض السيطرة كما كان حتى وقت قريب.

خلال عام ونصف من الإبادة الجماعية في غزة ومن تدمير قدرات اليمنيين، واستمرار العجز الأمريكي في حسم المواجهات وفرض الردع، مسألة لا تنبني فقط على امتلاك المقاومة الفلسطينية أو القوات اليمنية للسلاح، وإنما على امتلاك قوة الحق وشرعية الدفاع عن النفس، لذلك لا يبدو في الأفق الأمريكي ما يبشر بتحقيق أي انجاز .