الواقع المعيشي والحضاري يصنع من الشعوب ترسانة لا تنهار أمام أساليب النفوذ الخارجي
حسن شرف الدين
بعد وقف الحرب ضد إيران.. فشلت أمريكا في التشكيك بقدرات إيران العسكرية وإقناع الإيرانيين بأن المقاومة لن تحقق أي إنجاز لهم لصد ضربات إسرائيل.. ففي حين تشهد الساحة الإقليمية في السنوات الأخيرة تحولات ملحوظة، خاصةً بعد توجيه سياسات أمريكية هدفها التأثير على واقع إيران العسكري والثقافي، وفي الفترة التي أعقبت وقف التصعيد الظاهري، حاولت الولايات المتحدة باستخدام الحملات الإعلامية والدبلوماسية الموجهة التشكيك بقدرات إيران العسكرية، والسير في مسار إقناع الشعب الإيراني بأن جبهة المقاومة لن تكون قادرة على صد ضربات إسرائيل الاستفزازية.. لكن ما بَيَّنته التجربة أن هذه المحاولات المموهة لنفوذ نفسي وإعلامي لم تستطع أن تغير من إرادة الشعب الإيراني وثقة قيادته في قدرته على الدفاع عن سيادته ومصالحه الوطنية.
على مدى عقود طويلة، اعتادت السياسة الأمريكية على استخدام أساليب النفوذ والدعاية للوصول إلى تحقيق أهدافها في قلب الفكر والمعتقد الشعبي للمجتمعات التي تعتبرها «خصوماً لها».. وفي هذه التجربة، اعتبرت القيادة الأمريكية بأن انخفاض كفاءة القدرات العسكرية الإيرانية سيجعل من المقاومة حركة غير مجدية، تستنزف جهودها دون تحقيق نتائج ملموسة ضد ضربات إسرائيل التي طالما استهدفت مصالح الشعوب في المنطقة.. إلا أن هذا التصوير الأحادي الجانب لم يجد صداه بين الإيرانيين، الذين لهم بصمات طويلة على مسار نضالهم الوطني عبر مواطن المقاومة القوية، المستندة إلى تجارب مريرة في مواجهة التدخلات الخارجية.
من ناحية أخرى، عملت السلطات الإيرانية على إعادة صياغة الخطاب الوطني وربط الهوية الوطنية بضرورة الدفاع عن الوطن ضد العدوان الأجنبي.. استعانت الحكومة بوسائل الإعلام المحلية والقنوات الثقافية لإبراز الانتصارات العسكرية والدبلوماسية التي حققتها المقاومة في وجه ضربات إسرائيل المتكررة.. كانت الرسالة واضحة، إذ أُعلن أن لكل خطوة تعاونية وتعاضدية شعبية وقعها، انعكست إيجاباً على القدرة القتالية والتصدي للتهديدات الخارجية.
وفي هذا السياق، استُخدمت صور البطولة والتضحية الشخصية في سرد قصص الأبطال الذين وقفوا في وجه محاولات التقويض الأمريكية، لتأكيد أن القوة الحقيقية لا تُقاس بتوكيدات أو تحذيرات إعلامية، بل القوة تقاس بمدى تماسك المجتمع وارتباطه بالله سبحانه وتعالى.
إن الإخفاق الأمريكي في تغيير العقلية الإيرانية لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة تقدير خاطئ لطبيعة المقاومة التي يقوم عليها نسيج المجتمع الإيراني.. فطالما آمن الإيرانيون بأن التحديات الخارجية تستدعي الارتباط أكثر بالله سبحانه وتعالى والاستجابة الحاسمة والمتماسكة من كافة فئات المجتمع، مع الاتكال على الخبرات العسكرية الطويلة والقيم الثورية التي ورثوها من تاريخهم المضطرب مع القوى الاستعمارية.. هذه القيم، التي ترتكز على مفاهيم العقيدة والشجاعة والوحدة الوطنية والكرامة، حوَّلت الآلية الأمريكية للدعاية لمحاولة تهميش القوى الإيرانية إلى تجربة فاشلة، إذ ازدادت حدة الخطاب الوطني الإيراني في مواجهة مضامين التحطيم النفسي دون أن تتزعزع جذور الهوية الوطنية الراسخة.
كما أن الفشل الأمريكي لم يقتصر على التشكيك في القدرات العسكرية وحدها، بل تجلى أيضاً في عدم القدرة على كسر إرادة الإيرانيين في متابعة مسار المقاومة العسكرية والدبلوماسية الهادفة إلى حماية مصالح وطنهم في مواجهة ضربات تهدف إلى تغيير موازين القوى الإقليمية، فقد أصبحت المقاومة الوطنية في الداخل الإيراني رمزاً للوحدة في مواجهة العدو الأمريكي والإسرائيلي، ومثالاً حيّاً على أن الشعوب التي تحفظ عقيدتها وتاريخها وتراثها البطولي لن تنحني لضغوط خارجية مهما بلغت حدتها.. وفي هذا السياق، تجلى أن القوة الحقيقية لا تُستمد من الأسلحة وحدها، بل من الارتباط بالله سبحانه وتعالى والعزيمة الشعبية والإرث التاريخي الذي يصب كل جهد في صياغة مستقبل مستقل قائم على أسس العدالة والكرامة.
وفي خضم هذه التجاذبات بين الاستراتيجيات الأمريكية المبنية على الدعاية والتأثير، أثبتت القيادة الإيرانية أن المقاومة ليست مجرد شعارات، بل هي حقيقة ملموسة واستجابة عميقة للظروف الإقليمية المتغيرة.. لقد أسهمت هذه الاستجابة في صد ضربات إسرائيل، وتحوّلت إلى درس تاريخي يعكس أن الجهود المبذولة لتفتيت الوحدة الوطنية لا يمكنها إلا أن تُواجه بموجة مضاعفة من التضامن والتصدي.. وهكذا، فإن فشل أمريكا في التشكيك بقدرات إيران العسكرية يُثبِت أن القوة لا تُقاس بالتهديدات الإعلامية، بل بالواقع المعيشي والحضاري الذي يصنع من الشعوب ترسانة لا تنهار أمام أي تكتيك من أساليب النفوذ الخارجي.