حين غاب الجهاد غابت الأمة… آثار التنصّل عن المسؤولية الإيمانية والجهادية على واقع الأمة ومقدّساتها “1”
يحتلّ مفهوما الشهادة والجهاد مكانة مركزية في الخطاب القرآني، بوصفهما من أبرز القيم التي شكّلت وعي الأمة الإسلامية وهويتها الحضارية. وقد قدّم القرآن الكريم تصوراً فريداً لهذين المفهومين، يقوم على إعادة تعريف الموت والحياة، بحيث يصبح الجهاد سبيل الحياة الحقيقية، وتغدو الشهادة ذروة الارتقاء الإنساني في سبيل الله.
وقد تناول الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي هذه المفاهيم في سلسلة محاضراته القرآنية، مبيناً عمقها الإيماني والروحي، وناقلاً إياها من الإطار الشعاراتي إلى الفهم القرآني المتكامل، الذي يجعل الشهادة فعلاً واعياً نابعاً من إدراك عميق لمعنى الحياة والمصير.
ينطلق القرآن الكريم في حديثه عن الذين يُقتلون في سبيل الله من مبدأ جوهري يتمثل في نفي صفة الموت عنهم، إذ يقول سبحانه وتعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (البقرة:154)،
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169).
ويشرح الشهيد القائد هذا التوجيه الإلهي باعتباره إلغاءً تاماً لمفهوم الموت في الوعي الإيماني تجاه المجاهدين، فالله، كما يوضح، لم ينهَ عن وصفهم بالموت فحسب، بل قدّم بديلاً دلالياً يرسّخ معنى الحياة الحقيقية عند الله، ويشير إلى أن إبقاء شبح الموت في أذهان المؤمنين يحدّ من اندفاعهم نحو الشهادة، ولذلك جاء التوجيه القرآني حاسماً في قوله{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } هذا التحول المفاهيمي، بحسب التحليل القرآني، يمثل نقلة في بناء الوعي الجمعي، إذ يحرر الإنسان من عقدة الخوف من الفناء، ويزرع في روحه الإيمان بأن التضحية في سبيل الله ليست خسارة وجودية، بل عبور إلى حياة أسمى وأعظم مما نتصور.
يشكّل مفهوم الشهادة في القرآن الكريم أحد أكثر المفاهيم عمقاً في الوعي الإيماني والوجودي، إذ لا تُقدَّم الشهادة بوصفها نهايةً مأساوية للحياة، بل بوصفها ميلاداً جديداً في عالمٍ آخر، هو عالم القرب الإلهي والكرامة الأبدية. يقول الله تعالى:
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169–170].
تُسقِط هذه الآية الحاجز النفسي بين الموت والحياة، وتعيد تعريف الوجود الإنساني على ضوء الإيمان، فالحياة ليست استمرار الجسد في الزمن، بل بقاء الروح في دائرة العطاء الإلهي، أما الموت في سبيل الله فليس انقطاعاً، بل عبوراً نحو حياةٍ أوسع وأصفى، تتجاوز الوعي المادي المحدود إلى وعيٍ روحي متصل.
يرى الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي أن الشهادة تمثل “الكرامة العظمى التي يجب أن يحرص الإنسان على نيلها”، لأن الله لم يجعلها موتاً ينهي الحياة، بل حياةً تُمنح للمؤمن بعد أن يرتقي بوعيه إلى مقام الصدق والإخلاص في سبيل الله. ويقول إن من يخاف الموت إنما يجهل حقيقته القرآنية، لأن الشهداء أحياء عند ربهم، يعيشون في ضيافةٍ إلهية لا يدركها الحسّ المادي.
إنه – بحسب تعبيره – إلغاءٌ تام لمفهوم الموت في وعي المجاهدين؛ فالله لم ينهَ عن القول بأن الشهداء أموات فحسب، بل أمر بأن يُسمَّوا “أحياءً”، وهو أمر لغويٌّ وتربويٌّ عميق يعيد تشكيل الوعي الإيماني للأمة، ويحرّرها من عقدة الخوف من الفناء.
ومن زاويةٍ أخرى، تتجلّى في فكر السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي رؤيةٌ تأمليةٌ عميقة تجعل من الشهادة انتقالاً إلى حياةٍ مقدّسة. فهو يرى أن الشهيد لا يخرج من الوجود، بل ينتقل من ضيق الأرض إلى سعة الرحمة، من عالمٍ زائل إلى عالمٍ باقٍ، وأنه يكسب رحيله بطريقةٍ راقيةٍ في صفقةٍ مع الله، الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة.
فالشهادة في هذا المنظور ليست مجرّد حدثٍ قتالي، بل تحقّق وجودي لمعنى العبودية لله، حين يتجرد الإنسان من ذاته، ويتجاوز غريزة البقاء ليعيش الحياة التي أرادها الله له: حياة العزة، والحرية، والكرامة.
ويؤكد السيد عبد الملك أن من أهم معاني الشهادة أنها تحريرٌ للإنسان من الخوف، فالخوف من الموت هو أساس الضعف البشري والاستعباد السياسي، وحين يتجاوز المؤمن هذا الخوف، يصبح سيداً في دنياه، لا يُرهب ولا يُذل، فثقافة الشهادة تصنع أمةً لا تُهزم، لأنها لا ترى في الموت نهاية، بل بداية حياةٍ أخرى، ومن هنا كان قوله المتكرر في خطاباته:
” إنَّ أُمَّةً تعشق الشَّهادة في سبيل الله تعالى هي ستظل الأُمَّة الصامدة، والأُمَّة الثابتة، والأُمَّة القوية التي لا تهزها ولا تحنيها العواصف الجسام، ولا الأحداث الكبار، ستبقى هي الأُمَّة التي لا تُكبَّل بقيود وأغلال الخوف والمذلَّة والمسكنة، ولا تستعبد بالترهيب، ولا تستضام، ولا يُهيمَن عليها بالسطوة والجبروت والبطش، من الطغاة والظالمين والمجرمين..”
وهذا الوعي بالشهادة يعبّر عن تحول في بنية العقل الإيماني؛ إذ لم تعد الشهادة مجرّد تضحية، بل أفقاً معرفياً يعبّر عن وعيٍ بالحقيقة الوجودية للإنسان في علاقته بالله، إنها إعلانٌ بأن معنى الحياة لا يُستمدّ من طول البقاء، بل من صدق الاتجاه، وأن قيمة الإنسان تُقاس بمدى إخلاصه في سبيل الله لا بعدد أنفاسه في الدنيا.
ويجسد الإمام علي عليه السلام النموذج الأعلى لهذا الوعي، حين قال عند استشهاده: “فزت ورب الكعبة.”
تلك العبارة تختزل جوهر الفلسفة القرآنية للشهادة؛ فهي ليست تعبيراً عن ألم الفناء، بل عن سعادة الوصول، فالإمام الذي عاش لله، رأى في الموت لقاءً محبوباً مع الله، وتماماً لمسارٍ من الجهاد والإخلاص، إنها لحظة يلتقي فيها الإنسان بمصيره الذي اختاره عن وعيٍ ورضا.
ويفسّر الشهيد القائد هذه الحالة بأنها لحظةُ اكتمال الإيمان، حين تتحول فكرة الموت إلى يقينٍ بالبعث واللقاء، وحين يتحرر القلب من التعلّق بالدنيا فينفتح على الحياة الأبدية والعطاء الإلهي الذي يمنحه الله للشهداء لذا نجد الإمام علي يصفه بالفوز، ولذلك فإن الشهادة ليست انقطاعاً عن الحياة، بل هي الحياة بمعناها الحقيقي؛ حياة النور والبصيرة والكرامة التي لا تزول.
ومن هنا يمكن القول إن الشهادة تمثل في الفكر القرآني، كما في فكر الشهيد القائد والسيد عبد الملك، حدثاً وجودياً يتجاوز حدود الزمان والمكان، فهي لا تخصّ الفرد وحده، بل تترك أثرها في الأمة بأكملها؛ لأن دم الشهيد يتحول إلى طاقة روحية تُحيي الوعي الجمعي، وتبث في الأمة روح العزة والاستقامة، وكما قال السيد عبد الملك: ” كل شهيد يترك أثرًا من الروح المعنوية على مستوى معين، البعض مثلًا على مستوى قريته، على مستوى منطقته، على مستوى أسرته، على مستوى محيطه، على مستوى أصدقائه، على مستوى… أحيانًا بعض الشهداء يوفقهم الله بأن يكون هذا الأثر واسعًا جدًا، ومستواه مرتفعًا بشكلٍ كبير، هذه بركة ورحمة، وهذه إحدى الثمار المهمة للتضحيات في موقف الحق، هذا الأثر لا يكون إلا لشهداء الحق، شهداء العدالة، شهداء الشعوب في قضاياها العادلة، يتركون أثرًا وجدانيًا عظيمًا وحتى روحانيًا، الإحساس بقدسية هذه التضحية، عظمة هذه التضحية، وأنها تضحية في سبيل الله تعالى، والله قال: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:4].”
وبذلك تتخذ الشهادة معناها الأنطولوجي العميق: إنها انتصار الروح على الجسد، والحياة على الموت، والحق على الباطل. فالمؤمن الذي يهب نفسه لله لا يفقد ذاته، بل يجدها في أفقٍ أوسع من الوجود المادي، وحين يستشهد، لا يغيب عن الحياة، بل يصبح جزءاً من الحياة الأبدية التي منحها الله للشهداء والأنبياء والصديقين وعباده الصالحين.
يقدّم القرآن الكريم الجهاد بوصفه فعلاً تربوياً وإصلاحياً قبل أن يكون عملاً قتالياً. فالآيات التي تتحدث عن القتال في سبيل الله تأتي في سياقٍ يربّي النفس على الصبر والصلاة، ويهيئها لتفهم موقع الشهادة في البناء الروحي، كما في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ…} (البقرة:153-154).
ويبين الشهيد القائد أن هذا التدرج في الخطاب يعكس الأسلوب التربوي الإلهي الذي يثير في النفس التطلع إلى الشهادة باعتبارها حياة، لا خوفاً من الموت باعتباره نهاية. فالجهاد في المفهوم القرآني ليس مجرد دفاعٍ مادي، بل عملية إحياء للضمير الإنساني، وإعادة توجيه للروح نحو القيم العليا.
يقو السيد عبد الملك أيضا:” الجهاد في سبيل الله هو مسيرة بناء وتربية؛ لأنه ليس فقط تصرُّفاً عسكرياً في الساحة، هذا جزءٌ من الجهاد في سبيل الله، جزءٌ أساسيٌ لابدَّ منه، ولكنه يترافق معه ماذا؟
– إحياء إيماني تربوي أخلاقي.
– بناء للقدرات والإمكانات.
– إحياء في الأُمَّة، تجميع لها في إطار موقف صحيح.
– إحياء للشعور بالمسؤولية، يترافق معه عملية تربوية واسعة، وهذه مهمةٌ جدًّا حينما ترتبط بموقف.
في امتداد هذا الفكر، يؤكد السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي أن الشهادة لا تنحصر آثارها في الفرد، بل تمتد إلى واقع الأمة، إذ يقابل الله عطاء الشهيد بعطاءٍ أعظم يتمثل في النصر والعزة والتمكين.
فالمجاهد الذي يضحي بنفسه في سبيل الله يهب أمته حياةً جديدة، ويمنحها طاقة معنوية وروحية تبعثها من الضعف إلى القوة. ويقول السيد في هذا السياق:
“ما يقدمه الشهيد في سبيل الله يثمر نصراً، ويبني أمة قوية عزيزة، ويهب للأمة عزة ورفعة ومكانة وقوة, فيهابها الأعداء ويحسبون لها ألف حساب.”
ومن هنا يمكن القول إن مفهوم الشهادة، في الرؤية القرآنية ، يمثل محوراً لإحياء الأمة لا لفنائها، وأساساً لبناء نهضتها الروحية والسياسية.
يربط القرآن الكريم بين الحياة الحقيقية والإيمان، في مقابل الموت المعنوي الناتج عن الإعراض عن هدى الله. ففي قوله تعالى:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} (الأنعام:122)،
يؤكد أن الإيمان هو الذي يمنح الإنسان الحياة والنور، بينما يُعدّ الغافلون عن الله “أمواتاً” وإن بدت عليهم مظاهر الحياة.
ويشير الشهيد القائد في هذا السياق إلى أن المجتمعات التي تنفصل عن القرآن وشريعته تفقد نورها الداخلي وتتحول إلى مجتمعات “ميتة”، لا تتحرك بروح الهداية، حتى وإن كانت نابضة بالجسد.
ويقول السيد عبد الملك: ” الصلة الإيمانية بالله “سبحانه وتعالى” هي صلة حياة، وفيها مفاتيح الحياة، وهي التي من خلالها يتحقق للإنسان أن يكون حياً في مشاعره، حياً في وجدانه، حياً في إحساسه، حياً حياة الإيمان، حياة القيم، حياة المبادئ، حياً في شعوره بالمسؤولية، حياً في إحساسه بالكرامة، ثم يتحرك على أساس النور: نور الله “سبحانه وتعالى”..
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}[الأنعام:122]؛ ليبين الله لنا في هذه العبارة المهمة: أنَّ صلة الهداية والإيمان بالله “سبحانه وتعالى” ليست مجرد مبادئ وتعليمات جامدة، راكدة، ذهنية، لا تترك أثرها في نفسية الإنسان، في روحية الإنسان، في وجدان الإنسان، في مشاعر الإنسان، في اهتمامات الإنسان، في دوافع الإنسان، في أعمال الإنسان وسكناته وحركاته، لا، الذي يميِّز هذه الصلة بالله “سبحانه وتعالى” (صلة الإيمان والهداية): أنها تترك أثرها الكبير في الإنسان على مستوى روحيته، تحيي فيك الروحية الإيمانية بكل ما يتبعها، وبكل ما يترتب عليها، وبكل ما ينتج عنها ومنها”.
وبهذا المعنى، يصبح الجهاد في سبيل الله عملية إحياءٍ للأمة، والشهادة أرقى صور هذه الحياة المتجددة.
يتبع الجزء “2”