“مبعوثون من القبور”.. محررون يكشفون أهوال الإبادة داخل السجون الصهيونية
كأنهم لتوهم بعثوا من القبور، أجساد هزيلة، وجوه شاحبة، شعور طويلة، كسور تغطي مساحة الجسد، ندوب في اليدين والقدمين وحتى الوجه، أعين شاخصة مفزوعة لا تقوى على مواجهة ضوء الشمس، وحالة نفسية قاسية تخشى مواجهة حقيقة ما أنتجه واقع الإبادة الذي عاشه أهلهم فترة اعتقالهم.
هكذا يمكن أن تصف الكلمات فداحة أوضاع الأسرى المحررين في صفقة تبادل الأسرى مع الاحتلال الصهيوني، فقد تبدلت أشكالهم وظهروا وكأنما كبر الواحد فيهم عشرين أو ثلاثين سنة فوق أعمارهم الحقيقية، ووقفوا جميعا يحاولون وصف واقع سجنهم وظروف اعتقالهم، فعجزت كلماتهم وتلعثمت ألسنتهم.
خرج بعضهم مثقلا بأمراضه وجراحه التي أهملها الاحتلال متعمدا، يحمل هم من بقي من رفاق القيد والزنزانة، ويطالب الكل بالعمل على إنقاذهم وفكاك أسرهم، مؤكدين أن الأسرى داخل السجون يموتون في اليوم الواحد ألف مرة، جائعين، معذبين جسدياً ونفسيا، مهانين في كرامتهم يشتمون، تشن ضدهم أبشع الحروب النفسية، مهددين بقتل عائلاتهم وأبنائهم وأهليهم خارج السجون.
الأسير المحرر ناجي الجعفراوي، خرج من عتمة السجن، تفقد الوجوه فلم يجد بينها وجه أخيه الصحفي والناشط الشهير صالح، الذي ووري الثرى قبل تحرره بساعات قليلة؛ نتيجة استشهاده على يد عصابات إجرامية تابعة للاحتلال في مدينة غزة.
يؤكد “ناجي” الحافظ لكتاب الله، والمعروف بصوته الندي في قراءة القرآن، وبلاغته وفصاحته في إلقاء الدروس والخطب والمواعظ، أن السجن وأحواله لا تصفها الكلمات، “لا يصف السجن واصف فواقع السجن لا يوصف”، هكذا قال للصحفيين في اللحظات الأولى لتحرره.
وبين أن السجن “لا تستطيعه الكلمات ولا تجمعه العبارات، ولا يقوى عليه البلغاء، ولا يصفه الفصحاء”.
وأوضح أنه والأسرى معه كانوا في الموت، في قاع الجب، مغيبين تحت الأرض، وقال: “مهما تكلمت لن أصف كل شيء، أحتاج ساعات طويلة ومقابلات كثيرة لوصف عشر معشار ما أذكره مما مررنا به، فبعض آلام السجن ينسي بعضه بعضا”.
وكشف “الجعفراوي”، أنه بقي معصوب العينين مكبل اليدين على قفاه مادا قدميه أكثر من 100 يوم، مبيناً أن الاحتلال كان يسمح للأسرى بدخول الخلاء مرة واحدة كل يومين إن أتيحت الفرصة، فيما كان السجانون يدوسونهم بأرجلهم.
وقال: “خرجنا من غياهب الجب، خرجنا من الموت خرجنا من القبور من حياة البرزخ وكنا لا نعلم هل سنعود أم لا، لكننا كنا على ثقة أن الله لن يضيعنا”.
“أنا مش كويس.. أنا مش كويس.. إلنا سنتين جوعانين”.. هكذا وصف الصحفي الفلسطيني المحرر شادي أبو سيدو حالته، مؤكداً أنه حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت الإفراج عنه نعرض للتعذيب والإهانة.
“السجن كله عذاب كله تكسير كله شبح، كسروا يدي وكسروا ريش صدري، استخدموا معنا داخل السجن سياسة تكسير العظام”، هكذا خرجت كلماته بصوت منفعل وعصبية بادية على كل تفاصيله وملامحه.
ويؤكد، المصور الصحفي الذي يعمل مع قناة “فلسطين اليوم”، أنهم ورغم كل ما أصابهم تركوا لمواجهة مصيرهم دون علاج أو تقديم أية أدوية، وقال إن الدم بقي يخرج من عينه نتيجة التعذيب وتعمد السجانين ضربه على رأسه وعينيه.
وكشف أن السجان والمحققين تعمدوا إيذاء عينيه لأنه يعمل مصوراً صحفياً، كاشفاً أن المحقق قال له “سأقلع عينك كما قلعت عين الكاميرا التي كنت تصور فيها ما يحدث في غزة”.
ووفق روايته فإن المحامية سحر فرنسيس عندما زارته ورأت حالة عينه أرادت أن تقدم إفادة بحالته لمؤسسات حقوق الإنسان فرد عليها بالقول: “لا تبلغي مؤسسات حقوق الإنسان، بلغي مؤسسات حقوق الحيوان أنا أريد مؤسسات حقوق الحيوان، فقد أحصل على رحمة منها أكثر من مؤسسات حقوق الإنسان”.
ولم تكن سياسة التجويع خارج السجون فقط، بل امتدت لداخله، فقد قال “أبو سيدو”: “أنا جائع منذ سنتين، دخلت سجون الاحتلال وأنا جوعان، وبقيت في الأسر جوعان وطلعت منه جوعان”.
هذه الشهادات الصادمة، ليست سوى شاهد على فداحة ما يرتكب من مذابح بحق الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأسرى يتعرضون لحرب إبادة لا تقل خطورة عن تلك التي تعرض لها سكان قطاع غزة، وتستخدم ضدهم سياسات التعذيب والتجويع والإرهاب النفسي وحتى القتل.
ومنذ السابع من أكتوبر، استشهد داخل السجون الصهيونية 77 أسيراً فلسطينياً، وفق معطيات نشرتها مؤسسات الأسرى، نتيجة التعذيب والإهمال الطبي.
وكشفت تقارير أممية سابقة، عبر شهادات من معتقلين مفرج عنهم، ومحامين، وصور وفيديوهات، عن استخدام الضرب المبرح، والتفتيش والتجريد من الملابس، والإجبار على الوقوف أو الجلوس مكبلاً في وضعيات مزعجة وقاسية لفترات طويلة.
وبينت أن زنازين الاعتقال مكتظة جدا بالأسرى، وتفتقد إلى كل ما من شأنه أن يعين الأسرى على قضاء احتياجاتهم الأساسية اليومية.
ورأت التقارير الأممية أن انتهاكات جسيمة ومتعددة للقوانين الدولية ترتكب داخل السجون الصهيونية، منها معاهدة مناهضة التعذيب، اتفاقيات حقوق الطفل، قوانين حقوق الإنسان الدولية، والقانون الدولي الإنساني.
من جهته كشف مدير عام مجمع الشفاء الطبي الدكتور محمد أبو سلمية، أن الأسرى المحررين خرجوا في حالة صحية ونفسية بالغة السوء، منهكين، وتبدو عليهم آثار التعذيب، مشيرا إلى أن بعضهم خرج مبتور الأطراف نتيجة الإهمال الطبي في سجون الاحتلال.
وبين، في تصريحات صحفية، أن معظم الأسرى مصابون خلال الحرب، قبل اعتقالهم، ولم يتلقوا رعاية طبية داخل سجون الاحتلال.
وأوضح أن من بين الأسرى المحررين في صفقة تبادل الأسرى، حالات حرجة تحتاج إلى تدخل طبي عاجل.
هذا ما نكتبه اليوم عمن بعثوا من القبور، وخرجوا في صفقة المقاومة، تاركين خلفهم أمواتا آخرين ينتظرون يوم بعثهم للحياة من جديد، فمتى يحين وقت ذلك؟، وهل حينها سيستطيعون الانبعاث أم أننا سنجد أننا فقدناهم جميعا مرة واحدة وللأبد.
المركز الفلسطيني للإعلام