البُوصلة والمناعة.. كيف صنع الوعيُ السياسي مصير اليمن؟!
فهد شاكر أبوراس
لم يعد الوعي السياسي في اليمن ترفًا فكريًّا أَو نشاطًا نخبويًّا، بل تحول إلى ضرورة حياتية ملحة، كالماء والهواء، وأصبح خط الدفاع الأول الذي يحول بين الشعب وخططٍ تستهدف طمس هُويته وتمزيق نسيجه الاجتماعي وسرقة مقدراته.. إنه ذلك السلاح الخفي الذي لا ترصده الأقمار الصناعية، لكن تأثيره يفوق تأثير أي سلاح تقليدي؛ فهو يزرع في نفس كُـلّ يمني ويمنية حصنًا منيعًا ضد أغلفة التضليل والإعلام المُوجَّه الذي يغزون به العقول قبل الأرض.
في خضم هذه العاصفة، يبرز الوعي السياسي كبُوصلة لا تخطئ اتّجاهها، توجّـه السفينة اليمنية في بحرٍ متلاطم الأمواج من المؤامرات والمشاريع التفتيتية.
إنها البُوصلة التي تشير دومًا نحو الشمال الحقيقي لمصالح اليمن العليا، متجاوزة كُـلّ محاولات تشويش الاتّجاه التي تمارسها آلة الدعاية المعادية وأذرعها الإقليمية.
وهي التي تمكّن اليمني من تمييز الصديق من العدوّ، والحق من الباطل، والمشروع التحرّري من المخطّط التبعي.
لا تقوده فقط نحو هدف التحرير، بل تحميه من الضياع في متاهات المشاريع الأمريكية الرامية إلى إطالة أمد الحرب واستنزاف الطاقات، وتحذّره من الفخاخ الإسرائيلية المتمثلة في تمرير مشاريع التطبيع والتفتيت تحت شعارات “السلام الوهمي”.
ومن خلال هذه البوصلة الداخلية، استطاع الشعب اليمني أن يقرأ الخريطة الجيوسياسية للمنطقة بكل وضوح، ويفهم الأدوار الخفية للاعبين الدوليين، ويربط بين الأحداث في فلسطين وما يحدث على أرضه، مدركًا أن المعركة واحدة، وأن العدوّ واحد، وإن تنوّعت وجوهه وأساليبه.
وقد لم يولد هذا الوعي المتأصّل من فراغ، بل هو نتاج تراكمي لسنواتٍ من المعاناة والمعايشة، وهو يشبه المناعة المجتمعية التي تتعزز بعد كُـلّ هجمة مرض.
كل محاولة أمريكية لفرض وصاية، وكل خطوة إسرائيلية نحو التمدد في المنطقة، وكل بيان دولي جائر، كان بمثابة جرعة مناعية تزيد من قوة مناعة الوعي اليمني وقدرته على مقاومة فيروسات التطبيع والاستسلام.
وبفضل هذه المناعة، أصبح النسيج الاجتماعي اليمني محصنًا ضد الاختراق، وصارت الشعارات الجوفاء عن “الديمقراطية المفروضة” و”الحلول الدولية” لا تجد آذانًا صاغية، بل تثير الريبة والشك.
وأصبح اليمنيون قادرين على تشريح الخطاب الدولي وفك شفراته؛ فهم يعلمون أن “عملية إعادة الإعمار” قد تكون غطاءً لنهب جديد، وأن “الحوار الوطني” قد يكون بوابةً للتدخل في الشؤون الداخلية، وأن “الدعم الإنساني” قد يكون أدَاةً للسيطرة والابتزاز.
وهذه المناعة هي التي تحول دون نجاح أي مشروع هجين يهدف إلى خلق كيانات طائفية أَو مناطقية تمزّق الوطن إلى دويلات ضعيفة تتهاوى واحدة تلو الأُخرى تحت وطأة النفوذ الإسرائيلي المتصاعد وأطماعه في البحر الأحمر والممرات المائية.
وفي قلب هذا المشهد، ينمو الوعي كبذرة غرسها الأجداد في تربة الإيمان والكرامة، بذرة من حق الدم والتضحيات، تسقى بدماء الشهداء، ودموع الأُمهات، وصبر الآباء.
وهذه البذرة لا تموت تحت وطأة القصف، بل تزداد عُمقًا وجذورًا، وتنبت شتلات من المقاومة والفهم في كُـلّ قرية ومدينة.
إنها تحمل في داخلها الشفرة الوراثية للأُمَّـة، تحفظ هويتها وتعيد إنتاج ثقافة المقاومة جيلًا بعد جيل.
ومن هذه البذرة تنبت نتائج عملية ملموسة تجعل من الوعي سلاحًا لا يُقهَر.
فبفضله، تحول الشعب اليمني من مُجَـرّد متلقٍّ للأحداث إلى فاعلٍ رئيسي في صناعتها، يفرض وقائع على الأرض تزعج حسابات أمريكا وكَيان الاحتلال.
وهو الوعي الذي يحوّل كُـلّ شاب إلى مقاوم، وكل امرأة إلى مناضلة، وكل طفل إلى حامل لرواية المقاومة.
وهو الذي يجعل من الهزائم المؤقتة دروسًا مستفادة، ومن الانتصارات محطات إلهام.
في النهاية، اليمن الذي يدرك أنه في مرمى نيران مشروع استعماري جديد، يستخدم وعيه كعدسة مكبرة تكشف الخيوط الخفية التي تحَرِّكُها أمريكا وكَيان الاحتلال لتمديد الحرب وتفكيك الدولة.
ومن هذا الإدراك، يرسم استراتيجيته، جاعِلًا من إرادَة شعبه الحرة، المدعومة بوعي ثاقب، أقوى من أية ترسانة أسلحة، وأعتى من أية مؤامرة.
لأن الوعي هو البذرة التي تنتصر على القنبلة، وهو البوصلة التي لا تكذب، وهو السلاح الذي لا يصدأ، وهو المناعة التي تضمن استمرارية الحياة الكريمة في أرضٍ كانت وما تزالُ عنوانًا للعزة والشموخ.