كاتب أردني: المعرفة.. وانحطاط المسلمين والعرب.. والحل
فؤاد البطاينة
لأجدادكم تاريخٌ حضاريّ، فخرُه إرثٌ لكم لا ترثونه، ولديكم العقل والذكاء، والحواس الخمس موجودة وتعمل، فلماذا انعدام الحسّ بالإحساس إذن؟ لماذا الصغارة؟ ولماذا الاستكانة والخضوع لظالم أو مغتصب؟ ولماذا الاستهانة بالحقوق والاستهتار بالقيم؟ وشمّاعتكم لكل نائبة هي الصبر، وصبركم صبر حميرٍ يخلو من الرشاد. أسئلة التعجب لديكم سلسلة مغلقة لا نهاية لها، وبدايتها في كل حلقة.
كنت دائمًا أبحث عن إجابة مقنعة لانحطاط المسلمين والعرب، وكان ظني دومًا خاطئًا أو ناقصًا. لم أجد الإجابة في علوم السياسة والاقتصاد، ولا في طبيعة المحاربين، ولا في الخطابة وشحذ الهمم، فكل هذا وغيره فشل في أوساط أصحابه منّا، وبالتالي سيبقى الحال على حاله بل ويتعمق.
لكنني وقفتُ طويلًا عند عامل “الوعي”، ولم أجد له عند شعوبنا سبيلًا، فوضعت إصبعي على “المعرفة”، ووجدتُ أنها الأرضية التي نفتقد منسوبها اللازم، كي تعمل أدواتنا وأدواتها وتُنتج. المعرفة كمالها لله وحده، واستزادتُنا منها هي التي تمنحنا الوعي والقوة بأشكالها، وحصّة شعوبنا منها هي ضالّتنا.
وهنا تواجه شعوب العرب أسئلة أساسية:
لماذا لا تقع باقي الشعوب الإسلامية، التي حالها المعرفي كحالنا، فيما نحن فيه من هزائم وهوان؟
ولماذا أبواب المعرفة مغلقة علينا كشعوب عربية؟
وكيف نصل إلى المنسوب اللازم منها لتشكيل وعيٍ كافٍ يُسعفنا للنهوض؟
وما علاقة المقاومة بذلك؟ أقول: إنّ قدر العرب أن يكونوا هدفًا مبكرًا للقوى العظمى، حين زاوجت بين أطماع أيديولوجيتها الاستعمارية وذكرياتها التاريخية مع المسلمين، وقراءتها للنتائج حين يسود العرب متوحدين بخصائص منطقتهم. ولم يكن تخصيص العرب بالاستهداف نابعًا من ضعف فيهم أو استضعاف. فقد خُلقوا محاربين، وكان الغزو مهنتهم لأسباب منها البيئية.
وأختصر الكلام بالقول: إنّ المواجهة بين قوى الغرب العظمى والفلسطينيين، لو كانت مع دولة أو قوم آخرين غير الفلسطينيين، لحُسم الأمر منذ زمن، ولما بقيت هذه القوى عاجزة عن الحسم لقرن ونصف. بل إنّ العرب هم الشعب الوحيد الذي قاوم الاستعمار التركي قبل الحرب العالمية الأولى.
أما السؤال عن الصمت العربي، وكيف تصل شعوبنا إلى منسوب المعرفة اللازم لإسعافها، فإنّ المصيبة لا تتوقف على كون هذه الشعوب ما زالت مستعمَرة ولا تدرك أنها كذلك، بل في أنها خضعت وتخضع لحرب تجهيلية شاملة من قِبل تلك القوى، بكل أسلحة التجهيل والغزو الثقافي، وبمختلف الوسائل السياسية والعلمية والنفسية والقهرية، حتى نالت من بنيتها التاريخية والقِيَمية والمفاهيمية. فكيف لمن نشأ على هذا أن يُفكّر بمنطق لا يُحسّه؟
وكمثال على أقوى وسيلة استخدمها المستعمر لإغلاق أبواب المعرفة والتجهيل، كانت السياسة التعليمية، التي فتكت بالمواطن العربي منذ الطفولة الابتدائية وحتى الجامعات، حين يُفرض على الطالب مادة معيّنة في كل حقل، يجعلونها أساسًا لنجاحه وعبوره أو فشله. وهكذا يصبح النشء والأمة في طامة التلقين والبرمجة، وتحجّر العقل، بتغييب ثقافة القراءة والبحث عن الواقع والحقائق، وبالتالي تعذّر الحصول على المعرفة.
وفي المحصّلة، تأخذ مشكلة شعوبنا شكلها الأخير في عدم إحساسها بأنها تعيش داخل دولها في حالة استعمارية وعبودية طبيعية، كواقع سياسي تُنكره وتدافع عنه وتتمسّك به جهلًا.
فحل هذه المشكلة يمثل الشرط الطبيعي والخطوة الأولى حتمًا لبلوغ أبواب المعرفة، والوصول إلى وعيٍ راشد، والتحرر، والنهوض.
ويصبح التحدي الحقيقي المطروح أمامنا هو: كيف السبيل للتحرير السياسي لبلادنا؟
الجواب: إنّ الناموس الرباني في الطبيعة لم يترك مخلوقًا بلا حيلة تُخرجه من مأزقه، وهذه الحيلة بالنسبة للشعوب العربية هي في “المقاومة ومخرجاتها”.
وأمامنا المقاومة الفلسطينية، التي تمثل الفئة المتنوّرة، فهي “مدرسة” إشعاعية، عابرة للحدود والعقول والنفوس، تُعطي شعوبنا من المعرفة والمعنويات والحقائق ما يُولّد فيها الثقة بنفسها، ويدفعها لترى نفسها فيها بأيّة صورة كانت.
فنجاح المقاومة وتسيّد نهجها هو سقوط للأنظمة العربية وخروج للمستعمرين من فلسطين والمنطقة.
لقد كنا نقول سابقًا: “تحرير فلسطين يمرّ من العواصم العربية”، وهذه معادلة فاشلة في ظلّ حال شعوبنا وفي إطار حديثنا.
بل إنّ تحرير الدول العربية هو الذي يمرّ من فلسطين.
*كاتب عربي أردني