مشروع التطبيع الصيهوني الجديد في المنطقة
د. حامد أبو العز*
في كل منعطف تاريخي يطرأ على المنطقة، كانت العلاقة مع إسرائيل تمثل معيارا تُقاس به حيوية الأنظمة السياسية، ومدى تجاوبها مع الحساسية العميقة المتجذرة في الوعي الجمعي العربي. غير أن اللحظة الراهنة تكشف عن مفارقة استثنائية فالتطبيع لم يعد مجرد سياسة خارجية تُتخذ بميزان المصالح، بل تحوّل إلى خط فاصل بين شعوب تشهد أعنف موجة وعي سياسي منذ سنوات، وحكومات تتحرك أحيانا كمَن يشتغل في فراغ اجتماعي، كأن جمهورها لم يعد عنصرا فاعلا في معادلة الشرعية. هنا بالضبط تتولد خطورة التطبيع، لا كخطوة سياسية، بل كعلامة على انهيار بنية العلاقة بين الحاكم ومحكوميه.
إن قرار التطبيع في زمن الحرب على غزة لم يعد يُقرأ في المنطقة بمنطق “الاستقرار” أو “المصالح”، بل بوصفه انفصالا معرفيا وأخلاقيا عن شعوب تعيش لحظة يقظة غير مسبوقة. ما بعد السابع من أكتوبر ليس امتدادا لما قبله، بل هو لحظة أعادت تشكيل المعاني مثل معنى المقاومة، ومعنى الاحتلال، ومعنى العدالة، ومعنى الدور الشعبي في ضبط اتجاه السلطة. وفي عالم تتصارع فيه الروايات، لم تستطع إسرائيل، لأول مرة بهذا الوضوح، أن تفرض روايتها على الرأي العام العالمي، بل وجدت نفسها في مواجهة موجة احتجاجات كاسحة من نيويورك إلى لندن، ومن الرباط إلى باريس. وفي مثل هذا السياق تصبح خطوة التطبيع، مهما حاولت الحكومات تبريرها، أشبه بحركة معاكسة لاتجاه التاريخ.
الخطير في المسألة ليس فقط أن التطبيع ينطوي على تنازل سياسي، بل أنه يعلن انهيار القدرة على قراءة اللحظة. فالنظام العربي الذي يطبّع اليوم يفترض ضمنيا أن الوعي الشعبي هو مجرد ظاهرة عاطفية، قابلة للامتصاص عبر الخطاب أو عبر إغراق المجال العام بالانشغالات الاقتصادية. لكن ما أثبتته وقائع الحرب أن الشعوب لم تعد تتعامل مع فلسطين كقضية هوية فحسب، بل كمشهد كوني يستدعي إعادة تعريف الشرعية. إنَّ صور الدمار في غزة لم تغيّر مواقف القواعد الشعبية فقط، بل أعادت وضع الحكومات أمام سؤال وجودي ماذا يعني أن تبني شرعية حكمك بينما تُقدِم على خطوة تعتبرها شعوبك خيانة لميزان العدالة نفسه؟
في هذا الإطار يصبح النظر إلى التجربة السورية، كما كشفتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، مدخلا كاشفا لطبيعة “السلام” الذي تريده إسرائيل. فرفضها الانسحاب من الجولان والأراضي التي احتلتها بعد سقوط بشار الأسد، وربطها ذلك بسلام كامل يشمل فتح السفارات والتبادل الاقتصادي، ليس مجرد تعنت تفاوضي، بل هو تجسيد لفلسفتها الاستراتيجية القائمة على الاحتفاظ بالأرض مقابل بيع الوهم. فالسلام، وفق المنطق الإسرائيلي، ليس معادلة تبادلية، بل عملية تثبيت للاحتلال بقالب دبلوماسي يمنحه شرعية شكلية. إن إسرائيل لا تتعامل مع السلام كآلية لإنهاء الصراع، بل كأداة لإعادة تعريف الاحتلال ذاته فالأرض التي تُحتل بقوة السلاح تصبح، عبر الزمن والتطبيع، “قضية تفاوض”، ثم تتحول إلى ملف مؤجل، ثم إلى “وقائع لا رجعة عنها”.
من هنا يمكن فهم لماذا وصلت المحادثات مع سوريا إلى طريق مسدود: لأن إسرائيل لم تكن تفاوض على الانسحاب، بل تفاوض على الاعتراف. وهذا الفارق جوهري؛ فالتفاوض على انسحاب يعني قبولا بمبدأ الحقوق، بينما التفاوض على الاعتراف يعني ابتلاعا كاملا لمفهوم التفوق. بل إن إسرائيل لا ترى في الانسحاب من لبنان أو الجولان والأراضي السورية المحتلة، ولا حتى من أجزاء من الضفة، أي مكسب استراتيجي، لأنها تراهن على أن الزمن يعمل لصالحها، وأن كل سنوات الاحتلال تخلق “واقعا” جديدا تتوقع من العرب أن يقبلوه عبر التطبيع.
اللافت أن هذا النموذج من التفاوض، الذي يبدو للبعض “مسألة سياسية”، يُقرأ شعبيا بطريقة مختلفة تماما. فالشعوب لا ترى في التطبيع صفقة مصالح، بل ترى فيه قبولا بالهيمنة، وشرعنة لاحتلال لم تتغير طبيعته منذ عقود. هذه القراءة ليست نتاجا للدعاية أو للشعور القومي، بل نتاج لتجربة تاريخية كل اتفاقية سلام لم تنهِ احتلالا، وكل تعهد إسرائيلي سقط عند أول اختبار، وكل عملية تفاوض تحولت إلى منح إسرائيل هامشا أوسع لإعادة إنتاج قوتها.
إن التطبيع في زمن التحولات الكبرى لا يمكن أن يكون إلا فعلا محفوفا بالمخاطر. فالشعوب الغاضبة لا تملك فقط القدرة على التعبير، بل أصبحت قادرة على منح الشرعية أو نزعها. وحين يدخل النظام السياسي في صدام مباشر مع المزاج الشعبي، لا يعود السؤال هل التطبيع مفيد؟ بل يصبح هل يملك النظام بنية الصمود أمام غضب شعبي قد يتفاعل سياسيا واجتماعيا وأمنيا؟
من منظور استراتيجي، يمكن القول إن ما يجري اليوم ليس مجرد جدل حول “موقف من إسرائيل”، بل هو إعادة هندسة للعلاقة بين الشعوب والسلطة. لقد فرضت الحرب على غزة مستوى من الوعي جعل التطبيع يبدو في أعين الجمهور كفعل انفصال مستفز، كأنه إعلان صريح بأن صوت الشعب ليس جزءا من قرار الدولة. وهذا النوع من القرارات التاريخية إن لم يكن محمولا على شرعية شعبية فسيتحول مع الزمن إلى نقطة ضعف بنيوية.
إن الحكومات التي تفكر في التطبيع تحتاج إلى إدراك أنها تتعامل الآن مع شعوب مختلفة نوعيا عن شعوب العقدين الماضيين. الشعوب لم تعد تخاف من التظاهر، ولم تعد تقبل الرواية الرسمية بسهولة، ولم تعد تفصل بين القرار الخارجي ومصيرها الداخلي. إن وعي ما بعد غزة هو وعي عالمي، تشكّل عبر ماكنة تواصل اجتماعي كسرت احتكار الإعلام التقليدي، وجعلت رواية الضحية الفلسطينية حاضرة في كل بيت. وهذه التحولات تجعل أي قرار تطبيعي أشبه بقرار ضد التيار الكوني، وليس فقط ضد الإرادة المحلية.
إسرائيل، من جهتها، لم تتغير. لا في غزة، ولا في الضفة، ولا في سوريا ولا في لبنان. إنها لا تعترف بالحقوق إلا حين تفرضها القوة. هذا ليس توصيفا عاطفيا، بل سردية سياسية اعترف بها ساسة غربيون وخبراء أمنيون وحتى مؤسسات حقوقية. إسرائيل لا تفهم سوى لغة الردع، لأنها بُنيت على فلسفة أمنية تعتبر أن أي تنازل هو بداية انحدار. لذلك، فإن انتظار سلام عادل معها دون امتلاك قوة سياسية أو تفاوضية أو عسكرية هو انتظار لنتيجة لا تأتي.
وقبل أن يكون التطبيع سقوطا أخلاقيا، هو سقوط في قراءة التاريخ. فكل مشروع سلام لم يُبنَ على توازن قوة حقيقي انتهى إلى تكريس الاحتلال. وكل نظام راهن على التطبيع لتحسين صورته الدولية انتهى إلى خسارة شعبيته المحلية. لذلك فإن الخطر الحقيقي لا يكمن في التطبيع ذاته، بل في ما يكشفه من هشاشة في بنية السلطة، ومن سوء تقدير عميق للتاريخ ولحركة الشعوب ولمنطق الصراع.
في النهاية، ليست القضية مجرد رفض للتطبيع من باب المبدأ، بل من باب الفهم الاستراتيجي فالتطبيع ليس محطة نهائية، بل بداية سلسلة من الأثمان السياسية والاجتماعية التي ستدفعها الحكومات عندما تكتشف أن الشرعية لا تُمنح باتفاقيات، ولا تُصنع عبر التصريحات، بل تُبنى على علاقة روحية وسياسية مع الشعوب. وعندما تُقطع هذه العلاقة، يصبح النظام مكشوفا، مهما بدا مستقرا.
وهكذا يصبح السؤال الحقيقي هل يمكن لأي حكم أن يستمر إذا فقد جسره مع شعبه؟ الإجابة يعرفها التاريخ جيدا. ولعل اللبيب من الإشارة يفهم، قبل أن يصبح الفهم متأخرا.
*باحث السياسة العامة والفلسفة السياسية
كاتب فلسطيني