الاستخبارات الأمريكية.. تاريخٌ طويل من التجسّس
فهد شاكر أبوراس
تُوظّف الولايات المتحدة الأمريكية شبكاتٍ معقدةً من التقنيات المتطورة، وأُطُرًا قانونيةً ظاهرية، لفرض هيمنتها الرقمية على المستوى العالمي.
تمتد هذه الشبكات لتصل إلى أبعدِ نقطةٍ في الفضاء الإلكتروني، مستخدمةً أدواتِ جمع المعلومات والمراقبة التي تعتمد على منظومات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات المعقدة، لتحويل الإنترنت والاتصالات إلى ساحةٍ للسيطرة الاستخباراتية الأمريكية.
ويتم ذلك عبر جمع وتحليل كمّ هائل من البيانات من مصادر متعددة – تشمل الصور، والطائرات المسيرة، والأجهزة الإلكترونية الشخصية -؛ بهَدفِ تتبع التحَرّكات على الأرض، والتنبؤ بالسلوك، بل والتأثير في مجريات الأحداث السياسية والأمنية حول العالم.
التشفير.. سلاحٌ يُستخدم ضد أصحابه:
لدى أجهزة الاستخبارات الأمريكية تاريخٌ طويل في تسخير تقنيات التشفير نفسها لأغراض التجسّس.
ففي عام 1970، كشفت وثائقُ سرية لاحقًا أن وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) اشترت سرًّا شركة “كريبتو إيه جي” السويسرية المتخصصة في تجهيزات التشفير، بالشراكة مع جهاز الاستخبارات الألماني (BND).
وقد عمدت الوكالتان إلى التلاعُب بتجهيزات الشركة، بحيث تمكّنتا من فكّ تشفير الاتصالات السرية لِأكثر من 120 دولة، كانت تعتمدُ على منتجات الشركة لتأمين مراسلاتها الدبلوماسية والعسكرية.
وهكذا، أصبح “الدرع” الذي تظُنُّ الدولُ أنه يحميها، نافذةً سريةً تطلُّ منها واشنطن وبرلين على أسرارها.
من الاعتراض إلى التحكّم الكامل:
في العصر الرقمي، لم يعد الأمر يقتصر على اعتراض الاتصالات التقليدية، بل توسّع ليشمل تحكمًا شاملًا في تدفق البيانات عبر شبكات الاتصالات الدولية – السلكية واللاسلكية على حَــدٍّ سواء.
وتحاول الولايات المتحدة تغليف هذه الممارسات بغطاء قانوني، عبر تشريعات تظهر وكأنها تهدف إلى “حماية خصوصية البيانات”، بينما جوهرها يعزّز قدرة الأجهزة الأمنية على الوصول إلى المعلومات الحساسة.
هذه التشريعات، في واقعها، تخلق غطاءً شرعيًّا لعمليات مراقبة أوسع، تُبرّر تحت ذرائع “الأمن القومي” أَو “مكافحة الإرهاب”.
الشراكة الأمريكية-الإسرائيلية: نموذج الهيمنة
تُعد العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وكيان الاحتلال النموذجَ الأوضحَ لكيفية تحويل تقنيات المراقبة إلى أدَاة للهيمنة السياسية.
الدراسات تشير إلى أن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ليست مبنيةً فقط على المصالح الوطنية الأمريكية، بل إنها تابعةٌ – بشكل شبه مطلق – لإرادَة جماعات الضغط الموالية لكيان الاحتلال في واشنطن.
ومن هنا، حصلت (إسرائيل) على تدفُّقٍ مُستمرّ لأحدث التقنيات الأمريكية، التي تُوظَّفُ لتعزيز قدراتها الاستخباراتية، خَاصَّةً في مراقبة مناطقَ مثل قطاع غزة، وإيران، واليمن.
فأنظمة المراقبة الأمريكية-الإسرائيلية المتطورة، المزوَّدة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي، تحلّل كَمًّا هائلًا من البيانات المستمدة من الطائرات المسيرة، ووسائل الاتصال، والأجهزة الذكية؛ بهَدفِ تتبع تحَرّكات الأفراد، وتحديد الأهداف بدقة قاتلة.
والأمر لا يقتصر على الأهداف العسكرية المعلَنة، بل يمتد لاستهداف المدنيين، والصحفيين، ونشطاء الرأي، مما يوسع دائرة التأثير على الحياة اليومية للسكان، ويحوّل الخصوصية إلى وَهْمٍ في زمن المراقبة الشاملة.
الحليف ليس في مأمن:
حتى الحلفاءُ التقليديون للولايات المتحدة ليسوا بمنأىً عن هذه الممارسات.
ففي تركيا – العضو في حلف الناتو – كشفت وثائقَ أن أجهزةَ الاستخبارات الأمريكية جسَّست لعقودٍ على مسؤولي الدولة التركية.
هذا يؤكّـدُ أن أدواتِ المراقبة الأمريكية لا تميِّزُ بين “الصديق” و”العدو” عندما يتعلَّقُ الأمرَ بجمع المعلومات.
فواشنطن تستغلُّ اعتمادَ تركيا على التقنيات والبرمجيات الأمريكية للوصول إلى قواعد بياناتها؛ مما يخلُقُ تحدياتٍ جسيمةً للأمن القومي التركي، ويقوّض سيادة الدولة في حماية بيانات مواطنيها.
والمملكة السعوديّة، رغم تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن، ليست استثناءً.
فالبيانات الضخمة التي تُجمَعُ عبر مِنصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات الرقمية تُعد مصدرًا قَيِّمًا لأجهزة الاستخبارات الأمريكية لتحليل التوجُّـهات السياسية والاجتماعية داخل المملكة، في إطار استراتيجية أوسع تهدف إلى الحفاظ على الهيمنة الأمريكية على القرار السياسي في المنطقة.
كما يشير الخبيرُ الاقتصادي الأمريكي جيفري ساكس بوضوح:
“نحن نعلم أن التوتراتِ التجاريةَ هي في الواقع نتيجةً لمحاولات الولايات المتحدة إبطاءَ التقدم الاقتصادي في الصين، وهذا جزءٌ من المحاولات الأمريكية الشاملة للحفاظ على الهيمنة”.
وهو نفس النهج الذي تتبعُه واشنطن في الشرق الأوسط.
الخصوصية في مواجهة الهيمنة الرقمية:
باتت التحديات المتعلقة بحقوق الأفراد والقوانين الدولية أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى.
فالقدرات الأمريكية في مراقبة البيانات وتدفقها عبر الحدود تتجاوز بشكل كبير الأُطُرَ القانونية الحالية لحماية الخصوصية.
وحتى القوانين التي تبدو واقية – مثل “قانون خصوصية المستهلِك في كاليفورنيا” (CCPA)، الذي يتشابه في كثير من جوانبه مع “اللائحة العامة لحماية البيانات” الأُورُوبية (GDPR) – تُستخدم في الخلفية كغطاء، بينما تُطوّر أجهزة الاستخبارات أنظمة أكثر تطورًا لاختراق هذه الحماية نفسها.
التجربة اليمنية: نموذجُ المواجهة
في هذا السياق، تبرز التجربةُ الأمنية اليمنيةُ كنموذجٍ استثنائي لكيفية مواجهة آلة التجسّس الأمريكية-الإسرائيلية.
فقد نجحت الأجهزة الأمنية اليمنية في كشف خلايا تجسُّس متطورة، تعتمد على تقنيات رقمية متقدمة، كانت تُدار من خارج الحدود.
هذه التجربة تثبت أن الإرادَةَ الوطنية، والاعتمادَ على القدرات الذاتية، هما أَسَاسُ بناء منظومة أمنية فاعلة.
كما تُظهِرُ أن التحدياتِ يمكنُ أن تتحوَّلَ إلى فُرَصٍ للبناء، وأن الصعوبات قد تكونُ محفّزًا للإبداع والابتكار.
إن الاستثمارَ في تطوير القدرات الاستخباراتية لم يعد ترفًا، بل ضرورةٌ استراتيجية.
فالاستخبارات الفاعلة هي “العين الساهرة” التي تحمي الإنجازات، وتصون المكاسب، وتضمن الاستقرار.
والنموذج اليمني يقدِّم دروسًا بالغة الأهميّة في:
مواجهة التحديات الأمنية المعقدة، تطوير القدرات الذاتية، تحقيق التفوق الاستخباراتي، الحفاظ على الأمن الوطني، وبناء ردع استراتيجي فعّال.
الأمن في القرن الحادي والعشرين: علمٌ متكامل
لقد أصبح الأمن في القرن الحادي والعشرين عِلمًا متعدد التخصصات، يتطلب:
دمج التقني بالبشري، الجمع بين التحليل الاستراتيجي والتكتيكي، التكامل بين الأمن المادي والإلكتروني، والربط العضوي بين الأمن الداخلي والخارجي.
ويبقى التحدي الأكبر: أن السيطرة على البيانات لم تعد مسألة تقنية فحسب، بل معركة سياسية بالدرجة الأولى – معركةٌ تدور حول قدرة الدول والمجتمعات على حماية مصالحها الوطنية في وجه محاولات الهيمنة والتجسّس الرقمي.
ويحذر الخبراء من أن الولايات المتحدة لا تزال تؤمن بأنها “تحكم العالم وتدير شؤونه”، وهو وهمٌ خطير يُولّد التوتر في كُـلّ مكان، ويهدّد الاستقرار العالمي.
“وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَيَسْبِقُونَ ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ” (النور: 40)