الشهادة سراج الأُمَّــة ونبضُ الحياة

بشير ربيع الصانع

الشهادةُ في سبيل الله، تلك الكلمةُ التي تحملُ في طَيَّاتها أسمى معاني التضحية والجود، هي مطلع فجر جديد ومنبعُ حياة كريمة للأجيال.

إنها الروحُ المتفجرة التي تسري في جسد الأُمَّــة، فتدفع عنها أخطارًا ومطامع الأعداء، وتصنع مجدًا لا يبليه الزمان.

إن الشهادةُ هي التجسيدُ الأكملُ لمعنى الإحسان الذي نتوق إليه.

فهل هناك إحسان أعظم من أن يجود الإنسان بأغلى ما يملك، بنفسه الزكية؛ مِن أجلِ يضمن حياة عزيزة ومستقبلًا كريمًا لأجيال لم تولد بعد؟!

هذا البذل المطلق هو قمة العشق الإلهي والإنساني، هو أن يرى الشهيد في استشهاده ميلادًا لأمة، وفي دمائه بذورًا لحرية وكرامة.

إنه يرفع لواء العزة، ويوقع بدمه وثيقة الحياة الكريمة التي لا تقبل المساومة.

الأمة التي تتشرب ثقافة الجهاد والاستشهاد هي أُمَّـة حية أبد الدهر، لا تعرف الموت لعزيمتها ولا النسيان لذكرها.

هذه الثقافة هي الدرع الحصين والسلاح الذي يرعب الأعداء ويشل أيديهم عن التمادي.

عندما يواجهون أُمَّـة تعشق الشهادة في سبيله سبحانه وتعالى، يدركون أنهم أمام قوة لا تُقهر، قوة الإيمان التي لا تهاب الموت بل تراه ربحًا وفوزًا عظيمًا.

هذا العشق لشهادة في سبيل الله هو ما يطفئ شهوة الطمع والتمدد في قلوب المتجبرين.

إنه يقين لا يتزعزع بأن لا بديل لهذه الثقافة السامية إلا الانحطاط المذل والخنوع الذي يسقط الأُمَّــة في شباك الأعداء والوقوع في مستنقع الهوان.

إن الاستعداد للبذل والعطاء والتضحية في سبيل الله هو المحك الحقيقي والامتحان الصعب الذي يفرز الصدق من الادِّعاء.

الأُمَّــة التي تتردّد في هذا العطاء ليست جديرة بتحمل مسؤولية الدين، ولا يعتمد عليها في حماية المقدسات والأوطان.

هذه الثقافة هي إرث الأنبياء والأولياء والصالحين، وهي أعلى مراتب الإيمان التي تُظهر جوهر المرء.

ليست الشهادة خسارة أَو فناء، كما يصورها عميان القلوب الذين أغلقت عليهم شهوات الدنيا أبصارهم.

بل هي فوز عظيم وتجارة لن تبور.

قال تعالى في وصف هذا العطاء الإلهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأموالكُمْ وَأنفسكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَـمُونَ}.

وقال سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون}.

إنهم أحياء، حياة لا تُدرِكُها عقولُنا، حياة مغمورة بالنعيم والرضوان.

ثقافة الجهاد والبذل هي الميزان الذي نزن به إيماننا، كما وصفها المولى عز وجل: {إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأموالهِمْ وَأنفسهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئك هُمُ الصَّادِقُونَ}.

فالجهاد بالمال والنفس هو برهان الإيمان، والبعد عن الريب والشك هو الأَسَاس.

الصادقون هم من يترجمون الإيمان إلى فعل وتضحية.

الشهادة هي أرقى صفقة يبرمها العبد مع خالقه، صفقة بيع فيها الأنفس والأموال في سبيل مرضاة الله والجنة التي عرضها السماوات والأرض.

هذا هو العقد الأزلي الذي يمنح النفس السمو والخلود: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفسهُمْ وَأموالهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}.

يا لها من تجارة رابحة! ويا له من فوز عظيم! فالشهادة هي زغاريد انتصار، وإعلان عن ميلاد أبطال أوفياء، سكنوا قلوبنا ورفعوا رؤوسنا، وبقيت أرواحُهم تحلِّقُ حولنا، تروي بدمائها شجرة الكرامة لتظل مثمرة مدى الأيّام.

إنها قصةُ عشق إنساني بحت، يمتزجُ فيه حُبُّ الأوطان وحماية الأجيال بحب الخالق، ليصنعَ أُسطورةً لا تمحوها صفحات التاريخ.

قد يعجبك ايضا