التعاون الصيني – اليمني يشغل الغرب: أمن البحر الأحمر ملفّاً مفتوحاً
يعزّز اليمن موقعه الجيوسياسي ركيزةً لمعركة السيادة في البحر الأحمر، فيما يثير تمدّد حضوره وتنامي علاقاته مع الصين قلقاً غربياً وخليجياً من تحوّل موازين القوة.
يطرح وقف إطلاق النار المرتقب في غزة، تساؤلات معقّدة مرتبطة بالتداعيات التي أفرزتها الحرب، وفي مقدّمها الأمن الملاحي في البحر الأحمر، في ظلّ التطور اللافت في القدرات النوعية اليمنية، والقرار التاريخي الذي اتّخذه اليمن بتوظيف موقعه الجيوسياسي لصالح القضية الفلسطينية. ويدور نقاش غربي وخليجي عميق حالياً حول مستقبل مضيق باب المندب الذي يُعدّ شرياناً أساسياً للتجارة العالمية، وسط تساؤل عمّا إذا كان وقف الحرب في غزة سيؤدّي إلى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عملية «طوفان الأقصى»، أم أنّ صنعاء، ستواصل الحصار الجزئي على الكيان الإسرائيلي، وقطع شريانه البحري الوحيد نحو الشرق؟
الإجابة عن السؤال المقدّم لا يمكن حسمها إلا في ضوء التطورات على الساحة الغزّية، ومدى انسيابية تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، والرفع الكامل للحصار عن القطاع. ذلك أنّ اليمن، يربط قراره في هذا الشأن بموقف المقاومة الفلسطينية التي تملك الكلمة الأولى والأخيرة في استمرار الحصار أو تعليقه. ورغم ما ذُكر، تسود دوائرَ القرار الغربية والخليجية خشيةٌ من الحضور اليمني المتصاعد في البحر الأحمر، حتى بمعزل عن ملف غزة. إذ إنّ اليمن، بات يوظّف موقعه الجغرافي الحيوي نصرةً لقضايا العرب الكبرى، وبالقدر نفسه تثبيتاً لسيادته الوطنية، وهو ما يشكّل تحدّياً مباشراً لمساعي الاستئثار الغربي بموقع هذا البلد الجيوستراتيجي الممتدّ منذ عقود.
غير أنّ أمن الملاحة في البحر الأحمر يحمل من وجهة النظر الغربية، أبعاداً أكثر خطورة من مجرّد ارتباطه بالقضايا العربية. فالغرب ينظر بقدرٍ متزايد من الارتياب والقلق إلى تنامي العلاقات بين الصين وحركة «أنصار الله»، وسط تقارير استخباراتية تتحدّث عن نقل تقنيات متقدّمة مزدوجة الاستخدام، مدنية وعسكرية، إلى الأخيرة، وصولاً إلى الادّعاء أنّ بكين، بدأت تزوّد صنعاء، بمعدّات ذات طابع عسكري خالص، فضلاً عن صور أقمار اصطناعية في الوقت الفعلي.
وفي هذا السياق، سارعت وفود فنّية أميركية وأوروبية إلى مدينتَي عدن والمخا، لتفقّد شحنتَي معدّات أوقفتهما قوات طارق صالح و«المجلس الانتقالي الجنوبي» المرتبطين بالإمارات، بعد أن تردّدت أنباء عن احتوائهما تجهيزات إيرانية، وأخرى صينية. لا بل إنّ بعض التقارير الغربية ذكرت أنّ القاعدة الصينية في جيبوتي تشارك في تزويد «أنصار الله» بالمعلومات الاستخباراتية وتسهّل عملية عبور شحنات الأسلحة إلى اليمن. وفي ضوء ذلك، بدأ يُنظر في الغرب إلى التعاون الصيني – اليمني الناشىء على أنه مقدّمة لتحوّل موازين القوة في البحر الأحمر، وتراجع الهيمنة الغربية على واحدٍ من أهمّ الممرّات البحرية في العالم.
تتحدّث تقارير غربية عن مشاركة القاعدة الصينية في جيبوتي في تزويد «أنصار الله» بالمعلومات الاستخباراتية
وعلى أي حال، فإنّ الدول الغربية وتلك الخليجية المؤثّرة، ولا سيّما السعودية والإمارات، لا تتوقّف عن الحراك والبحث عن ركائز تؤهّلها لحجز حضورها في المعادلة القادمة؛ وهو ما كانت بدأت معالمه في المؤتمر الذي عُقد الشهر الماضي في الرياض، برعاية سعودية وبريطانية، حول الأمن الملاحي في البحر الأحمر، بمشاركة 40 دولة. وجاء ذلك في وقت تسعى فيه الإمارات، بدورها، إلى ترسيخ حضورها العسكري والاستخباراتي، عبر إيجاد موطئ قدم دائم في الجزر والمواقع الحيوية داخل اليمن، والدول المجاورة.
وتُظهر صور الأقمار الاصطناعية شبكة واسعة من القواعد والمنشآت ومدارج الطائرات التي أنشأتها أبو ظبي، بالاستعانة بوكلائها المحلّيين في جنوب اليمن وغربه، خصوصاً في جزيرتَي عبد الكوري وسمحة في أرخبيل سقطرى، التي تتمتّع بموقع مثالي لمراقبة الممرّ البحري الرابط بين خليج عدن وبحر العرب. كما امتدّت هذه الشبكة لتشمل المخا في الساحل الغربي لليمن، وميون في مضيق باب المندب، إضافةً إلى مطارَي بوصاصو وبربرة، في منطقتَي بونتلاند وأرض الصومال.
من جهتهم، يجري الأوروبيون مراجعة استراتيجية للبتّ في تمديد عملية «أسبيدس» في البحر الأحمر، حيث تبدو أوروبا، مقبلة على واحدة من أكثر مراحلها البحرية حساسية وتعقيداً منذ عقود، خصوصاً في ظلّ التحدّيات المتصاعدة في البحر الأحمر. غير أنّ الرئاسة القبرصية المنتظرة للاتّحاد (بدءاً من كانون الثاني 2026)، تواجه مجموعة من التحدّيات البنيوية والسياسية المتجذّرة في الانقسام القبرصي المزمن، الذي لا يزال يقيّد قدرة نيقوسيا، على الظهور كفاعل ذي سيادة كاملة. فالنزاع المفتوح مع تركيا، يفرض قيوداً على تحرّكات قبرص الإقليمية، ويؤثّر في مدى تجاوب دول المنطقة معها.
كما أنّ أي محاولة أوروبية لإشراك مصر أو دول الخليج في ترتيبات الأمن البحري، قد تصطدم باعتراضات أنقرة، أو بمخاوف الشركاء الإقليميين من التورّط في الملف القبرصي. إضافة إلى ذلك، فإنّ تجدّد التوتّرات حول المناطق البحرية في شرق المتوسط، وما يوازيه من هشاشة سياسية داخل الجزيرة نفسها ناجمة عن التوتّر المتزايد بين نيقوسيا والقبارصة الأتراك، قد يُربك جدول أعمال الرئاسة القبرصية ويقوّض أولويات الاتّحاد في ملفات الأمن والطاقة والهجرة.
ورغم هذه التعقيدات، يدرك الأوروبيون أنهم لا يملكون ترف الانسحاب من البحر الأحمر. فالحفاظ على وجود بحري متواصل وربما أكثر قوة هناك، بات ضرورة استراتيجية، لكنّ تحقيقه يتطلّب التزاماً مالياً كبيراً وتنسيقاً سياسياً عميقاً بين الدول الأعضاء، في وقت تتّسم فيه البيئة السياسية الإقليمية والدولية بدرجة عالية من اللّاستقرار. كما أنّ الضغوط الأميركية المتزايدة، التي تشجّع أوروبا، على «تحمّل التكلفة والدور»، تضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى عملية اتّخاذ القرار داخل الاتّحاد، وتفرض على بروكسل، التفكير بجدّية في صوغ مقاربة أوروبية مستقلّة للأمن في البحر الأحمر.
لقمان عبد الله الأربعاء 8 تشرين اول 2025م