الوعي القرآني في مواجهة الهيمنة اليهودية .. قراءة في محاضرة [سورة آل عمران ـ الدرس الأول] للشهيد القائد
الوعي القرآني في مواجهة الهيمنة اليهودية
قراءة في محاضرة [سورة آل عمران ـ الدرس الأول] للشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي
صحيفة « الحقيقة » اعداد : صادق البهكلي
في محاضرته المؤثرة التي ألقاها بتاريخ الثامن من يناير 2002م، يقدّم الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) قراءة قرآنية عميقة وجريئة، مستندًا إلى مجموعة من الآيات الكريمة من سورة آل عمران (الآيات 100–109)، وفي مقدمتها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ...}.
هذه المجموعة من الآيات، التي كثيرًا ما يتعامل معها البعض باعتبارها نصوصًا وعظية عابرة، يضعها الشهيد القائد تحت المجهر، كاشفًا من خلالها عن طبيعة المشروع الاستعماري اليهودي، الذي لا يقوم فقط على الاحتلال العسكري أو الغزو السياسي، بل يتغلغل عبر الهيمنة الفكرية والنفوذ الثقافي، ليحوّل المسلمين إلى أدوات طيّعة، تساهم عن غير وعي في تثبيت قيود الهيمنة على ذواتها، من خلال الطاعة الطوعية لأعدائها.
ويؤكد الشهيد القائد أن ما تتضمنه هذه الآيات من تحذير رباني ليس مجرد خطاب عابر أو متعلق بظرف تاريخي انقضى، بل هو قانون إلهي دائم يجسّد معادلة الصراع الحضاري عبر الأزمان، إذ أن “فريقًا من الذين أوتوا الكتاب” – وعلى رأسهم اليهود – لا يزالون يمارسون عملًا دؤوبًا ومخططًا لإخراج الأمة من دائرة الإيمان إلى أتون الكفر والانحراف، ليس فقط بالقهر أو السلاح، وإنما عبر السيطرة على مفاصل الوعي، وتوجيه القرار السياسي، وقطع الأمة عن امتدادها الإلهي في القيادة والهداية
هذا الطرح يقدّم فهمًا جديدًا لفكرة “الطاعة”، لا باعتبارها مجرد استجابة لأمر، بل كأداة جوهرية في تشكيل الهُوية والولاء، ويبين أن الانصياع لقوى خارجية في المسائل المصيرية للأمة يُعد خروجًا عن مقتضى الإيمان، بل ارتدادًا تدريجيًا مقنعًا. وتنبع خطورة هذه الطاعة أنها تقدم بمسميات مخادعة من خلال الخداع الثقافي والتضليل السياسي، ما يجعل عملية الردّة عملية ناعمة وغير محسوسة. ويؤكد الشهيد القائد أن الطاعة هنا ليست عرضًا سطحيًا، بل هي نتاج خلل بنيوي في فهم الأمة لدينها وهويتها ورسالتها، إذ تتجه طاقتها وتصوراتها إلى غير القبلة، وتبتعد عن القرآن كمصدرٍ للهداية العملية، وتُسلّم زمامها لمن يحقد عليها ويدنس مقدساتها وينتهك كرامتها.
المشروع اليهودي بين الاختراق والتفريغ العقائدي
ويكشف الشهيد القائد في قراءته للآية الكريمة:{إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}،
أن المسألة ليست مجرد خطر محتمل، بل خطة مدروسة من قبل اليهود، ترتكز على إيصال الأمة إلى حالة الطاعة الطوعية الكاملة لهم، حتى وهم – أي المسلمون – يعلمون يقينًا أن ما يمارسونه من طاعة إنما هو لليهود أنفسهم، أو من ينفذ أجندتهم بشكل مباشر. وتؤكد صيغة الضمير الواردة في الآية أن الله يحذر من طاعة فريق معروف بالغدر والمكر ومحدد من الذين أوتوا الكتاب( اليهود والنصارى).
ويبرز الشهيد القائد بعدًا استراتيجيًا في هذه المعادلة، وهو أن اليهود بحكم طبيعتهم الاقتصادية البالغة الحرص، لا ينظرون إلى الهيمنة بمنظور الصدام المباشر والمكلف، بل يسعون دومًا إلى تحقيق أقصى قدر من السيطرة بأقل تكلفة ممكنة. فبدلًا من خوض معارك دامية قد تُرهق ميزانياتهم وتؤثر على مصالحهم، فإنهم يتبعون منهجية خبيثة متدرجة: “حبة حبة”، وخطوة بعد خطوة، حتى يتحول المجتمع الإسلامي إلى تابعٍ وخاضع لهم، ليس فقط في السلوك السياسي، بل على كل المستويات.
وبهذا الأسلوب، تنقلب المفاهيم، ويصبح المسلمون تابعون لليهود دون إدراك، ويتحول الإيمان إلى ركام شعارات، والعزة إلى ذل، والمنعة إلى هشاشة داخلية، وكل ذلك بـ”تكلفة أقل” من أنظمة الاحتلال التقليدية. إنها صيغة استعمارية حديثة تسلب الإرادة، وتفصل بين الأمة وربها، فتفقد بذلك سندها الإلهي ومصدر قوتها الروحية والسياسية.
ويتساءل الشهيد القائد بمرارة: لماذا يصر اليهود على رد الأمة إلى الكفر، بدلًا من الاكتفاء بالسيطرة أو الاستغلال؟ والجواب – كما يقدّمه – لأنهم يدركون من خلال خبرتهم الدينية المتراكمة عبر القرون أن الإيمان الحقيقي لدى الشعوب هو الخطر الأكبر على مشروعهم، وأن أمةً مؤمنة حقًا لا يمكن قهرها لا بالسلاح ولا بالاقتصاد. ومن خلال هذه المعرفة العميقة، بات هدفهم الأول هو تجريد الأمة من إيمانها وهويتها، لأنهم يعلمون أن فصل الأمة عن الله يعني ضربها من الداخل، وتركها مكشوفة أمام أي غزو خارجي.
ويؤكد السيد حسين أن خطورة الموقف تكمن في أن الله سبحانه وتعالى، حين يرى عباده وقد تخلفوا عن مسؤوليّاتهم، وانصرفوا عن هديه وولاة أمره من أعلام الهدى، يتخلى عنهم بل ويصبح خصمًا لهم، فيضربهم هو، كما يضربهم أعداؤهم، لا من باب الشراكة مع العدو، بل من باب العدالة الإلهية في معاقبة المقصرين الذين يمثلون الدين وهم أبعد ما يكونون عن هديه. وهكذا تصبح الأمة في مرمى ضربتين: ضربة اليهود من موقع العداوة، وضربة الله من موقع الغضب: ” عندما تصبح كافراً، يصبح من السهل على اليهود أن يضربوك؛ لأنهم قد فصلوك عن الله، وستكون في نفس الوقت بدلاً من أن تكون محط عناية الله وتأييده تصبح محط ومحل غضب الله – ونعوذ بالله من غضبه – وإذلاله وتعذيبه.”
يشير الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) إلى أن الارتداد عن الإيمان ليس مجرد تغيّر فكري أو لفظي، بل تحوّل وجودي كامل يجعل الإنسان في موقع العدو من الله، بعد أن كان في دائرة عنايته وتأييده. فالتحذير الإلهي هنا لا ينطوي على احتمالات نظرية، بل يكشف عن حقيقة ماثلة وواقعية: أن الطاعة لفريق من أهل الكتاب، وعلى رأسهم اليهود، تؤدي إلى الانسلاخ التدريجي من الإيمان، ليصبح المسلم فريسة سهلة للاستهداف، ليس فقط لأن عدوه تغلّب عليه، بل لأنه فقد الحصانة الإلهية التي كانت تحميه حين كان في دائرة الولاء لله.
إن هذا التبدل الخطير لا يضع الإنسان فقط في مرمى العدو، بل يجعله محط غضب الله وعقوبته، بعد أن كان مستحقًا لنصره. إنها صورة مفزعة لعاقبة الطاعة لأهل الكتاب، حيث يتحول المؤمن إلى كافر، ويتحوّل الموقع من الاصطفاء الإلهي إلى الإذلال الإلهي. ويتساءل السيد حسين: هل من الممكن أن يحدث هذا فعلًا؟
ليجيب بأن القرآن لا يتحدث عن افتراضات، بل عن حقائق يقينية، وأن الآيات الإلهية، في مضمونها، ليست فقط ألفاظًا للبركة أو التلاوة، بل هي “أعلام على حقائق” كما سماها، تكشف واقع الحياة، وحقائق الهدى، والغيب، والمستقبل.
القرآن الكريم يكشف عن وعي مقلوب
يتوقف الشهيد القائد في محاضرته طويلًا عند قول الله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101]،
ليُبرز حجم المفارقة المأساوية في سلوك الأمة آنذاك، مفارقة تدعو للدهشة والذهول؛ إذ كيف يمكن لقومٍ أن يسقطوا في مهاوي الكفر، رغم أنهم يعيشون في أجواء الوحي، ويستمعون إلى آيات الله تتلى عليهم، وبينهم رسولٌ اصطفاه الله، رحمة وهداية؟! إن هذا الاستفهام الإلهي ليس مجرد صيغة بلاغية، بل تشخيص دقيق لحالة الانفصال بين الظاهر الديني والمضمون الإيماني، حالة تنذر بأن الكفر ليس ناتجًا عن غياب النصوص أو نقص التوجيه، بل عن تعطيل الوعي وضعف الاستجابة لما يهديهم الله إليه.
الشهيد القائد هنا يلفت الانتباه إلى أن آيات الله ليست نصوصًا هامشية ولا “صحفًا سياسية” كالتي تصدرها جهات الإعلام، بل هي كلمات صادرة من الرحمن الرحيم، من الربّ الذي يهتم لأمر عباده، ويهديهم ويشفق عليهم، وهي تُتلى على أمة عرفت من هو الله، ومن هو نبيّه، لكنها تتهاون وتتغافل، فتتجه إلى طاعة أعداء الله، لتتحقق بذلك آية الردّة، وتبدأ مرحلة السقوط.
ثم يبيّن السيد أن المشكلة لا تقف عند حدود الكفر الظاهري، بل تتجلى في وجود نفاق داخلي مؤسِّس للخيانة، فالمنافقون – وهم من وسط المجتمع المسلم – لم ينكروا وجود القرآن أو النبوة، بل آمنوا بالظاهر وانحرفوا في الباطن، منقادين خلف مصالحهم الضيقة وجهلهم بالله. هؤلاء، بما لهم من تأثير خبيث، كانوا السبب في شق الصفّ، والتثبيط عن الجهاد، والارتماء في أحضان الكافرين، حتى أصبحوا أداة فعالة في إضعاف الأمة من الداخل. وهنا تظهر خطورة النفاق في زمن الرسالة، بل وامتداده إلى زماننا، حين أصبح المنافق العربي البسيط – المتأثر باليهودي – أكثر فتكًا من العدو الخارجي، لأنه يخترق النسيج الاجتماعي من الداخل.
ومن زاوية تحليلية ، يوضح الشهيد القائد كيف أن منافقًا واحدًا – كعبد الله بن أبيّ – استطاع أن يُرجع ثلاثمائة رجل عن الخروج مع رسول الله في غزوة أُحد. هذه الواقعة ليست تفصيلًا تاريخيًا، بل مؤشرًا على أن الخيانة تبدأ دائمًا من الداخل، من أولئك الذين لا تردعهم الآيات، ولا تستفزّهم العزة الإيمانية. وإذا كانت الأمة في زمن النبوة قد تعثرت بمثل هؤلاء، فإنها في عصر الغياب النبوي والهيمنة الإعلامية اليهودية أشد عُرضة للانقياد والتخلي، خصوصًا عندما يصبح “المنافق العربي” اليوم مجرد وكيل محلي يُحرّكه اليهودي عن بُعد، كالدمى التي تعمل بالتحكم عن بعد.
ويختم السيد هذه المحطة من المحاضرة بتحذير مؤلم: أن اليهودي، الذي يمتلك تاريخًا دينيًا طويلًا وخبرة دينية عابرة لآلاف السنين، أخطر بكثير من المنافق العربي محدود الفهم. فحينما يتحول المجتمع إلى بيئة تتأثر بمنافقٍ ضعيف، فإنه سيكون مهيئًا لأن يُستباح من قِبل عدوٍ خبير، يعرف كيف يفصل الناس عن الله، ثم يدفعهم إلى عبادة أعدائهم من دون وعي. وهذه، كما يصرّح السيد، هي الكارثة الأكبر: أن يتلو المسلم آيات الله، ويعيش في رحاب تعاليمه، ثم ينتهي به الحال عبدًا لطغاة الأرض باسم الدين.
الثقلان… مشروع النجاة ومرتكز الصراع
ينتقل السيد الحوثي إلى تأصيل الرؤية من خلال الربط بين القرآن والعترة، مستشهدًا بحديث الثقلين: “إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي“. ويطرح هذا الحديث لا كمسألة دينية مجردة، بل كمشروع إستراتيجي للهداية والخروج من تيه الهيمنة.
فالقرآن، بحسب الشهيد القائد، ” تحتاج الأمة إلى من يجسده” هنا تظهر أهمية العترة، ليس كمجرد امتداد نسبي للنبي، بل كورثة لكتاب الله ويحملون البعد العملي، القيادي للرسالة.
إن في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101] دلالة بليغة تتجاوز مجرد عرض لمشهد تاريخي، لتؤسس لمبدأ جوهري في بنية الهداية الربانية واستمراريتها في حياة الأمة. فالهداية التي يرسلها الله لعباده لا تقتصر على النصوص المكتوبة فقط، بل تحتاج إلى من يجسدها واقعًا حيًّا في الناس، من يحمل قيمها، ويفسر معانيها، ويقود الأمة بها؛ ولهذا لم تكتفِ الآية بقولها “تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ”، بل أضافت مؤكدة “وَفِيكُمْ رَسُولُهُ”، كاشفة أن القرآن يحتاج إلى من يمثله في الواقع، عَلَم من الناس، قائد رباني يسير به ويطبّقه، وهو ما مثّله وجود النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في المجتمع آنذاك، كرسول شاهد ومبلّغ ومربٍّ ومجسد لهدى الله. إن مجرّد وجود آيات الله لا يكفي، ما لم يكن هناك من يهدي بها، ويدور حولها، ويفتح مغاليقها، ويوجه الأمة بها، ويرعاها من خلالها، فذلك ما يمثله “الرسول” أو من يقوم مقامه في كل عصر.
وإذا كانت الآية تعاتب مجتمعًا تُتلى عليه آيات الله ويعيش في ظل وجود رسول الله ثم يضل ويتأثر بأعداء الله من المنافقين وأهل الكتاب، فإن في ذلك تحذيرًا مرعبًا للأمة اليوم، التي لا يزال القرآن يتلى فيها، لكنها فقدت الكثير من أعلام الهدى، فارتبكت بوصلتها، وتاهت في مسالك الباطل، وتسللت إليها أعلام الضلال فقادوها إلى الانحراف.
إن فقدان الأعلام الربانيين، أولياء القرآن، قادة الأمة من ورثة النبوة، لم يكن فراغًا عابرًا، بل كان مصيبة ضربت قلب الهداية، فحلّ محل أعلام الحق رموز السوء، وبدلاً من أن تلتف الأمة حول أعلام القرآن من آل بيت النبوة، تداعت خلف شخصيات جوفاء لا تمت للقرآن ولا للهداية بصلة، بل تحمل الباطل من رأسها إلى أخمص قدميها، وتدّعي أنها تمثل الدين، فتقود الأمة إلى الجحيم باسم الطاعة والاتباع.
والأسوأ من ذلك أن تتحول تلك الرموز إلى قنوات يتعبد الناس الله عبرها، وهم في حقيقتهم أعداء لله ولرسوله، فيسيئون إلى مقام الألوهية من حيث لا يشعرون، فيتوهمون أنهم يرضون الله بتولي من خالف الله، ويقربون إليه بولاء من عصاه. وقد بيّن الله سبحانه وتعالى استحالة ذلك بقوله: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]، أي لا يمكن لله أن يستعين بأهل الضلال في هداية عباده، فكيف يصح أن يُجعل من أعداء الله طريقًا إليه؟!
والنقطة الأخطر أن الدين حين يُفرغ من محتواه القرآني الواقعي، ويُختزل في نصوص بدون أعلام حق، فإنه لا ينفع، بل قد يتحول إلى وسيلة ضلال، تمامًا كما حصل حين قيل: “حسبنا كتاب الله”، وكأن النص وحده يغني عن التفسير والقيادة والتجسيد العملي له، وهي مقولة خطيرة جرّت على الأمة قرونًا من التيه، وأفقدتها مرجعيتها، حتى أصبح الباطل يُتلى من على منابر الدين، وتُنسج حوله شرعية زائفة.
إن الأمة، منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، لم تُترك بلا حُجّة، ولا يمكن أن يُعقل أن تنال تلك الأمة الصغيرة شرف مرافقة الرسول الأعظم، ثم تُترك أجيال الأمة من بعدهم بلا قادة ربانيين. فكما أن الأمة لا يمكنها أن تهتدي إلى الله بلا كتاب، فإنها أيضًا لا يمكنها أن تفهم الكتاب وتهتدي به وتلتزم بهدي الله دون عَلَم هدى، يرث الرسول، ويواصل المسيرة، ويكون حجة الله على عباده.
إن وجود الأعلام الربانيين ليس ترفًا دينيًا، بل ضرورة قرآنية وعقلية وفطرية، فمن فطر الإنسان أنه يبحث عن قدوة، وأنه لا يمكن أن يعيش بلا مرجعية تهديه وتضبط حركته. وحين لا يجد أعلام حق، فسيبحث عن أعلام باطل، يتبعهم من حيث لا يدري، ويتعبد الله باتباعهم، وهم أهل هوى وضلال. وهكذا ينتشر الباطل في الأمة عبر رموز مقدّسين، وليس من خلال أفراد بسطاء أو جهّال لا تأثير لهم. فالباطل لا يسري من العامة، بل من نخبه المضللة، التي ترتدي رداء العلماء، وتحمل ألقاب “الصحابة” أو “التابعين” أو “المحدثين”، فيلتبس على الناس أمرهم، ويخلطون بين قداسة الدين وسوء من يحمل لواءه زورًا.
وفي المقابل، فإن الحق لا يسري إلا من خلال أعلام حق، رجال عظماء نعرف تاريخهم، ونشهد على سيرتهم، ونتلمس فيهم الرحمة والحرص والصدق في حمل الهداية، فنحبهم ونتبعهم، ومن خلالهم نتصل بالقرآن، ونهتدي به، ونحقق معنى الهداية الربانية.
وهكذا، فإن الآية الكريمة ترشدنا إلى أن استمرار الهداية لا يكون بالقرآن وحده، بل بوجود من يحمل القرآن ويهدي به، يرث النبي في مقام الهداية، ويقود الأمة على نهجه، وهم في الامتداد الطبيعي آل بيت النبي صلى الله عليه وآله، ورثته الشرعيون في الهداية. وهذه الحقيقة، إن لم تفقهها الأمة، فإنها ستظل رهينة أعلام ضلال يتقمصون ثوب الدين، ويسوقون الباطل باسم الإسلام، حتى تتعبد الأمة بضلالهم، وتتصور أنهم أعمدة الدين، وهم في الحقيقة من نقضوه.
ومن هنا، فإن الهداية لا تكون فعّالة إلا حين يكون الله حاضرًا في وعي الأمة، معظّمًا في نفوسها، والقرآن معظّمًا في صدورها، وأعلام الهدى متقدمين في قيادتها. أما حين يُنسى الله، ويُهمّش القرآن، وتُفرّغ الساحة لأعلام الضلال، فإن النتيجة هي الكفر بعد الإيمان، والضياع بعد الهدى، كما حذّرت الآية بدقة: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ كَٰفِرِينَ} [آل عمران: 100].
في سياقٍ التحذير من خطورة الطاعة لأهل الكتاب وعلى ضوء الحلول القرآنية يتحدث الشهيد القائد حول الآية الكريمة: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] عن حقيقة جوهرية تمسّ كيان الأمة في صميمها، وتضع أمامها معيارًا حاسمًا للنجاة أو الهلاك: الاعتصام بالله وحده دون سواه. إن هذه الآية لا تأتي في فراغ، بل تتنزل في سياق الحديث عن المخاطر الكبرى التي تهدد الإيمان وتعرض الأمة للارتداد والضياع، إذ تسبقها الآيات بالتحذير من طاعة فئة من أهل الكتاب الذين يسعون إلى أن “يردوكم بعد إيمانكم كافرين”. وهنا تبرز كلمة “الاعتصام” كحالة دفاع وجودي، وموقف نجاتي لا مفرّ منه.
والاعتصام بالله في حقيقته ـ كما يوضحه الشهيد القائدـ ليس مجرد شعار يُرفع أو دعاء يُتلى، بل هو تموضع استراتيجي واعٍ في خضم صراع مرير وجاد تدور رحاه على مصير الأمة وهويتها واستقلالها. فالقرآن يقرّ بأن هناك صراعًا رهيبًا تقوده قوى الكفر، وتحديدًا من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، بهدف تطويع الأمة وتحويلها إلى أداة وظيفية في مشاريعهم، لا مجرد أتباع أو حتى “شركاء”، بل عبيدًا تحت أقدامهم، كافرين ليس بمعنى الانفصال عن الإسلام لفظًا فقط، بل عمليًا وقيميًا وثقافيًا وسياسيًا.
وما نراه اليوم من علاقات سرية وعلنية بين أنظمة عربية وإسلامية وبين الكيان الصهيوني ليس إلا مصداقًا واضحًا ومروّعًا لهذه الآية. فمنذ سنوات مضت، كانت بعض العلاقات مع العدو الصهيوني تدور في الخفاء، تحت طاولة “الضرورات”، وبدعاوى “الدبلوماسية” و”السلام”، أما اليوم فقد انتقلت الأمة – للأسف – من مرحلة الخفاء إلى العلن، ومن السرية إلى الوقاحة السياسية، حيث تُرفع أعلام الاحتلال في عواصم عربية، ويُستقبل مجرمو الحرب الصهاينة استقبال الأبطال، ويُفتح المجال أمام الاختراقات الصهيونية الاقتصادية والإعلامية والثقافية في بلدان يُفترض أن تكون في صف القضية الفلسطينية لا في خندق أعدائها.
والأدهى من ذلك أن هذه العلاقات لم تتوقف عند حدود “التطبيع”، بل بلغت حد خيانة صريحة للشعب الفلسطيني، وتركه فريسةً للإبادة والتجويع والتهجير في غزة والضفة والقدس، دون تحرك فعلي واحد يرقى إلى مستوى الحدث، وكأن الأمة قد سلّمت رقبتها للطاغوت الصهيوني، واكتفت بالتعزية والبيانات و”الوساطات” الفارغة. أليست هذه النتيجة الحتمية عندما تفقد الأمة الاعتصام الحقيقي بالله؟! وعندما تبحث عن أمنها واستقرارها في حضن واشنطن أو مظلة الناتو أو مظلة الأنظمة العميلة؟!
الآية تكشف أن “الاعتصام” بالله هو الجواب على هذا التهديد الجارف. فالأمة اليوم تُستدرج شيئًا فشيئًا إلى خانة الخنوع والتبعية الكاملة للمحور الصهيوني-الأمريكي، تحت عناوين براقة كـ”السلام الإبراهيمي” و”التحالفات الاقتصادية”، لكن الواقع يكشف أنها تُساق كُرهًا أو طوعًا إلى “الكفر العملي” حين تفقد استقلالها، وتُحول أراضيها إلى قواعد للعدو، وأسواقًا لمنتجاته، ومنابرها إلى أبواق لثقافته، وكُتابها إلى مروّجين لأوهامه.
حينها، لا تعود الأمة قادرة على الدفاع عن نفسها، ولا على حماية دينها، ولا على نصرة قضاياها، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بل تصبح أداة في يد أعدائها، تنفّذ سياساتهم وتسوّغها فكريًا وعقديًا. هنا تنطبق الآية بدقتها المخيفة: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ}، أي أن من فقد الاعتصام بالله فقد الهدى، ضلّ الطريق، وسقط فريسة لأعدائه، مهما بلغ من العناوين والشعارات والادعاءات.
فهل ترى في الساحة اليوم من يعتصم بالله بحق؟ هل الاعتصام بالله يعني التنسيق الأمني مع الاحتلال؟ هل الاعتصام بالله يعني استقبال قادة العدو في قصور الحكم؟ هل الاعتصام بالله يعني التبرؤ من المقاومة ووصفها بالإرهاب؟! هذا ليس اعتصامًا بالله، بل هو ارتماء في أحضان الطاغوت. الله عندما يقول: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ}، فهو يدعونا إلى الارتماء في مشروعه، في هُداه، في كتابه، في أعلام هدايته، في نهج الجهاد والمواجهة والتوكل عليه وحده، لا على أمريكا ولا على الصهاينة ولا على أدواتهم في المنطقة.
ومن يدقق في قوله تعالى: {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يجد أن الهداية ليست أمنية تُنال بالتمنّي، بل نتيجة للتموضع الصحيح في هذا الصراع، الذي هو في جوهره صراع بين “من يعتصم بالله” ومن “يريد الاعتصام بالطاغوت”. وواقع الأمة اليوم يؤكد أنها، إلا من رحم الله، تميل كل الميل إلى الجبهة الثانية، حيث الهيمنة الأمريكية، والتطبيع الصهيوني، والتخلي عن المستضعفين، وبيع القيم والمبادئ مقابل البقاء على العرش، أو البقاء في السوق العالمية!
فالاعتصام بالله لم يعد مجرد خيار تعبّدي في زمن السلم، بل صار موقفًا مفصليًا في زمن الحرب: من يعتصم بالله يرفض التطبيع، يرفض الهيمنة، يرفض الخضوع، يناصر المستضعفين، ويثبت على القيم مهما اشتدت العواصف. ومن يتخلى عن هذا الاعتصام، فإنه وإن رفع القرآن، وإن ادّعى الإسلام، فإنه – بمقاييس القرآن – قد فَقَد الهداية، وسقط في شرك التبعية والخيانة.
وهذا هو التحدي الأكبر اليوم: أن تستعيد الأمة وعيها بأن الاعتصام الحقيقي لا يكون إلا بالله، لا بالمجتمع الدولي، ولا بمجالس الأمن، ولا بالمفاوضات المهينة، ولا بالمعاهدات المشبوهة، ولا بالتطبيع المخزي. الاعتصام بالله يعني أن تختار طريق الكرامة، طريق المواجهة، طريق الجهاد، طريق التضحيات، طريق نصرة المظلوم، وفي القلب منهم شعب فلسطين، الذي يتعرض لأبشع حملات القتل والحصار والتهجير، بينما صمت الأنظمة يخرق الآذان، وتواطؤها يدوّي في العواصم.
فهل من عودة إلى صراط الله المستقيم؟! هل من لحظة وعي تعيد الأمة إلى ربها، لتعتصم به وحده وتنبذ كل صور الخضوع والمهانة؟! هذا هو السؤال الذي تطرحه الآية، وتترك لنا إجابته على قارعة الطريق.
النهوض يبدأ من الوعي… و القرآن لا يزال قائمًا
رغم النقد الشديد الذي توجه به السيد الشهيد القائد إلى واقع الأمة، إلا أن محاضرته لا تخلو من بصيص أمل، بل هي في جوهرها دعوة شجاعة إلى النهوض. فهو يؤمن أن القرآن لا يزال مشروعًا مفتوحًا لمن أراد أن يتفاعل معه بصدق، وأن الأمة – رغم سُباتها – لا تزال تملك في داخلها جذوة قابلة للاشتعال متى ما وُجد الصدق في الدعوة، والقدوة في القيادة. وفي هذا السياق، يقدم مشروع “الثقلين” كخريطة طريق متكاملة، ليست للنجاة الفردية فقط، بل لإعادة صياغة هوية الأمة على أسس من الهداية الواقعية والتحرك العملي.
ويرى أن أولى خطوات النهوض تبدأ من كسر حالة التقديس الأعمى للأصنام الفكرية والسياسية التي تم زرعها في عقول الشعوب، وأن تحرير الإنسان يبدأ من وعيه، لا من محيطه فقط. ومن هنا فإن مسؤولية العلماء والمثقفين والمصلحين لا تتوقف عند إدانة الواقع، بل تتطلب خوض معركة حقيقية في مجال إعادة بناء المفاهيم، وكشف الزيف، وتقديم خطاب قرآني حي يلامس واقع الناس ويستنهضهم.
اليوم، ونحن نعيش في مرحلة التحولات الكبرى، يبدو أن مشروع الهيمنة يترنح أمام مشروع قرآني صاعد يعيد للقرآن حضوره في المعركة، كمنهج للتحرر . وهذا ما يجعل من فكر الشهيد القائد – خصوصًا في هذه المحاضرة – مشروعًا حيًا لا يزال صالحًا للقراءة، والاستلهام، والتطبيق، متى ما وُجد الصدق في التلقي، والإرادة في الفعل. إن المعركة اليوم لم تعد فقط بين حق وباطل فقد بات الباطل والحق واضح بل بين وعي وضلال، وبين قرآن يحرك الناس ويستنهض هممهم، وبين شيوخ ومنابر تدجين وتضليل .
“اقرأ أيضًا”