اليمن بين صعود القوة وتراجع الهيمنة: قراءة في خلفيات الانزعاج البريطاني الأمريكي من معادلات البحر الأحمر
عودة الأطماع الاستعمارية: قراءة في خلفيات التحركات البريطانية الأمريكية جنوب اليمن
تحوّل اليمن إلى قوة صاعدة: كيف تغيّرت معادلات البحر الأحمر؟
الحقيقة ـ جميل الحاج
تشهد الساحة اليمنية والبحر الأحمر لحظة تحوّل تاريخية قلبت موازين القوى التي حكمت المنطقة لعقود طويلة، فوفقاً لعدد من التحليلات والدراسات السياسية والإعلامية الحديثة، لم يعد الانزعاج الأمريكي والبريطاني نابعاً فقط من إخفاقات عسكرية تكتيكية، بل بات مرتبطاً بالتحوّل الجذري في مكانة اليمن الاستراتيجية، والصعود المتسارع لقوة صنعاء البحرية والعسكرية والسياسية.
هذا التحوّل جعل اليمن لاعباً محورياً في أحد أهم الممرات المائية العالمية، وأجبر القوى الغربية على إعادة النظر في أدواتها التقليدية وأساليب نفوذها.
لم يكن التدخل العسكري الأمريكي البريطاني في البحر الأحمر وليد اللحظة، بل نتاج شعور عميق بأن “الهيبة العسكرية” لم تعد قادرة على فرض الواقع كما اعتادت. فعمليات مثل “حارس الازدهار” لم تحقق أهدافها المعلنة في وقف الهجمات اليمنية على السفن المرتبطة بـ “إسرائيل” أو المتجهة إليها، وتعطيل ميناء “إيلات” وفرض حصار شامل على الكيان، ما أدى إلى حالة ارتباك ملحوظة في دوائر صنع القرار الغربية.
السفن الحربية، والرادارات المتطورة، والطائرات المسيّرة الغربية المتقدمة، لم تستطع خلق “مظلة ردع” فعالة، الأمر الذي اعتُبر تحولاً غير مسبوق في تاريخ الهيمنة العسكرية الغربية على الممرات المائية.
هذا الفشل دفع واشنطن ولندن لزيادة نفوذهما المباشر في الجنوب اليمني، كمحاولة لاستعادة زمام المبادرة ورسم معادلات جديدة، رغم أن الواقع الميداني يشير إلى نتيجة مغايرة تماماً.
أبرز ما يكشفه المشهد الراهن هو التحوّل الكبير في مكانة صنعاء، فقد انتقلت من دولة محاصرة أو ساحة حرب بالوكالة إلى قوة بحرية وصاروخية فاعلة، قادرة على فرض إرادتها في البحر الأحمر وخليج عدن.
وبفضل التطورات العسكرية خصوصاً في مجال الصواريخ البحرية والطائرات المسيّرة أصبحت اليمن قادرة على التأثير المباشر في حركة التجارة العالمية في أي وقت.
هذا الظهور القوي خلق معادلة جديدة، مفادها أن أي ترتيبات تخص الملاحة الدولية لا يمكن أن تتم دون أخذ الموقف اليمني في الاعتبار، وهذا ما أثار استياء القوى الغربية التي لطالما تعاملت مع البحر الأحمر باعتباره منطقة “نفوذ خاص” لا ينازعها فيه أحد.
لم يعد الأمر متعلقاً بهجمات تكتيكية على سفن معينة، بل بات مرتبطاً بصياغة واقع استراتيجي جديد.
إذ أصبحت قدرة صنعاء على فرض “معادلة هيمنة بحرية” أمراً واقعاً، الأمر الذي انعكس في اضطرار قوى دولية لسحب سفن متضررة، وطلب المساعدة تحت ضغوط أمنية متزايدة.
ما يثير قلق واشنطن ولندن هو أن صنعاء لم تعد بحاجة إلى تحالفات خارجية لبناء قوتها، بل تعتمد على قدرات محلية طورتها رغم سنوات الحصار.
وهذا ما جعلها طرفاً إقليمياً يُحسب له حساب، وقوة يصعب تجاوزها في المشهد السياسي والأمني للبحر الأحمر.
لم تكن زيارة الوفد البريطاني إلى عدن مجرد خطوة دعائية أو دبلوماسية، بل تحمل في طياتها رغبة واضحة في إعادة صياغة النفوذ القديم في جنوب اليمن.
فعدن وباب المندب وخليج عدن تمثل، من منظور لندن، مواقع استراتيجية لا يمكن تركها لقوة إقليمية صاعدة.
السرديات البريطانية التي تزعم دعم “الحكومة المستقيلة” تبدو غطاءً لتحركات أعمق هدفها:
ـ محاولة إعادة لملمة الفصائل المتناحرة التي تعتمد عليها لندن تاريخياً.
ـ تثبيت موطئ قدم جديد في مناطق كانت تحت سيطرتها خلال الحقبة الاستعمارية.
ـ خلق جبهة جنوبية موالية، أملاً في موازنة النفوذ الصاعد لصنعاء.
لكنّ هذا التحرك يكشف في الوقت نفسه عن أزمة استراتيجية تعيشها بريطانيا، إذ تواجه قوة يمنية أكثر تماسكاً ونفوذاً مما كانت تتوقعه، ما يضعها أمام تحديات تتجاوز قدراتها التقليدية.
بعد سنوات من الحرب التي لم تحقق فيها القوى الغربية وحلفاؤها الإقليميون أي مكاسب استراتيجية حاسمة، أصبحت الحاجة ملحة للتدخل المباشر.
لم تنجح الضربات الجوية في ردع صنعاء عن عملياتها البحرية، مما كشف ضعف الهيمنة العسكرية الغربية وتسبب في تآكل هيبتها.
هذا الإخفاق دفع بواشنطن ولندن إلى محاولة تثبيت موطئ قدم عسكري وسياسي مباشر لاستعراض القوة ومحاولة استعادة زمام المبادرة.
تتحرك واشنطن اليوم كمكمل للدور البريطاني، لكنها تفعل ذلك تحت ضغط الواقع الذي فرضته العمليات اليمنية.
فبعد سنوات من إدارة الحرب عبر الدعم الاستخباراتي والعسكري، وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام قوة يصعب احتواؤها.
ولذلك، كثفت وجودها في سقطرى وعدن وتعز، محاولة بناء خارطة نفوذ موازية تعيد لها السيطرة على خطوط التجارة البحرية.
غير أن الهجمات الدقيقة التي شلت فعاليتها العسكرية في البحر الأحمر كشفت هشاشة هذه التحركات.
لقد أثبتت الوقائع أن القوة الأمريكية وحدها لم تعد كافية لفرض الأمن البحري خدمتا للعدو الإسرائيلي، وأن اليمن قادر على تعطيل الاستراتيجيات الغربية إطلاقاً، وليس فقط التشويش عليها.
بعد الإخفاقات الميدانية، لجأت بريطانيا والولايات المتحدة إلى مسار اقتصادي أكثر شراسة. إذ تعملان على:
ـ حصار اقتصادي خانق للموانئ.
ـ تعطيل الواردات الأساسية.
ـ إدارة سياسات مالية تستهدف المؤسسات اليمنية بشكل مباشر.
هذه الحرب الاقتصادية تهدف إلى كسر صمود اليمنيين بعد العجز عن كسرهم عسكرياً، لكنها لم تحقق أهدافها المرجوّة.
فقد أثبتت المؤسسات اليمنية قدرة على التكيف، فيما زاد الوعي الشعبي من الالتفاف حول القيادة المحلية.
انطلقت اليمن قيادة وشعبا في اسناد غزة وفقا للمبدئ الديني والأخلاقي والإنساني بتنفيذ عمليات عسكرية استهدفت الكيان الصهيوني وفرضت حصار بحريا على الكيان، مشترطتا إيقافها حال وقف العدوان على غزة، وهو ما منحها بعداً سياسياً وشعبياً واسعاً عربياً وإقليمياً، هذا الارتباط لا يكسبها دعماً فقط، بل يعزز من صورتها كقوة ذات رؤية تتجاوز حدود الصراع المحلي، ما يضع الغرب أمام أزمة سياسية إضافية: كيف يمكن مواجهة قوة تنسجم خطواتها مع الوجدان العربي؟
وهذا ما جعل اليمن لاعب لا يمكن تجاوزه، وأن اليمن لم يعد دولة هامشية، بل قوة مركزية في معادلات البحر الأحمر.
فقد فرضت صنعاء:
ـ واقعاً أمنياً جديداً.
ـ حضوراً سياسياً لا يمكن تجاهله.
ـ قدرة على تغيير مسارات الملاحة العالمية.
ـ تأثيراً مباشراً على قرارات القوى الكبرى.
وهذا ما يشكّل جوهر الانزعاج الأمريكي والبريطاني: خسارة النفوذ التقليدي أمام قوة صاعدة يصعب تطويعها أو احتواؤها.
تبدو التحركات الأمريكية البريطانية اليوم كأنها محاولة متأخرة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لكن اليمن، بتماسكه الشعبي وقدراته العسكرية ونضجه السياسي، أثبت أنه تجاوز مرحلة الوصاية وأنه قادر على الدفاع عن سيادته ورسم مسار مستقل في البحر الأحمر والمنطقة.
لقد فشلت كل محاولات الضغط العسكري والسياسي والاقتصادي في كسر إرادة بلد اعتاد مقاومة الهيمنة.
واليوم، لا يبدو أمام الغرب إلا خيار واحد للحفاظ على الاستقرار: الاعتراف بيمن جديد، قوي، وصاحب قرار، لا يخضع للإملاءات الخارجية.. وفي الآخر اليمن يقولها بوضوح: لا وصاية بعد اليوم.