اليمن: تشريعٌ للكرامة الإنسانية في مواجهة نظامٍ دوليٍّ مأزوم
سند الصيادي
في زمنٍ خفتت فيه أصواتُ العدالة تحتَ ركام المصالح، واستُبدل فيه ميزانُ القانون بسطوة المال والسلاح، وفي لحظةٍ فارقةٍ من التاريخ الإنساني نعيشها اليوم، حَيثُ تتهاوى الشعارات البراقة عن “الحرية” و”العدالة الدولية”، وتتكشّف ازدواجية المعايير في أوضح صورها، نهضت صنعاء من عمق الحصار والجراح، نفضت غبار القصف والدمار، وبرز الموقف اليمني تجاه فلسطين وغزة تحديدًا كصوتٍ مختلفٍ لا يُجامل ولا يساوم، بل يعيد تعريف العلاقة بين القانون الدولي والضمير الإنساني، ليقول كلمته في وجه عالمٍ مأزوم: إنّ الكرامة ليست شعارًا سياسيًّا، بل تشريعٌ إنسانيٌّ خالدٌ لا يسقط بالتقادُم.
إنّه موقفٌ يتجاوز السياسة إلى الفلسفة، ويتخطّى الاصطفافات إلى مبادئَ أسمى.
ذُبحت غزة ولا تزال، على مرأى العالم، فيما الصمت الدولي يصوغ أفظع وثيقةَ خيانةٍ في تاريخ البشرية، بينما اليمن -هذا البلد الجريح- يقف شامخًا ليعيد تعريف معنى السيادة والشرعية والإنسانية في آنٍ واحد.
لم تكن صواريخ ومسيرات البحر الأحمر والعمق المحتلّ سوى رسائل بلغةٍ لا تفهمها الأمم المتحدة، بل تفهمها الضمائر الحيّة: لغة الموقف، حين يتكلّم الإنسان بكرامته لا بلسانه.
وما رآه ولمسه العالم لم يكن مُجَـرّد تضامنٍ سياسي، بل تشريعٌ للكرامة، وعودةٌ إلى المفهوم الحقيقي للعدالة؛ العدالة التي لا تُقاس بقرارات مجلس الأمن، بل تُوزن بدماء الأبرياء، وبشجاعة الشعوب التي قرّرت أن تقول “لا” في زمنٍ لا مكان فيه لكلمة “لا”.
اليمن يعيد تعريف القانون الدولي
لم يكن التحَرّكُ اليمني تجاه العدوان على غزة خطوةً عاطفيةً أَو استعراضًا سياسيًّا، بل كان موقفًا قانونيًا مؤسّسا على مبادئ صريحة في ميثاق الأمم المتحدة والمنظومة الدولية نفسها.
أولًا: حقّ الدفاع الشرعي الجماعي
تنصّ المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة على حقّ الدول –فرادى وجماعات– في الدفاع عن نفسها في حال وقوع عدوانٍ مسلح، ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي المدعوم أمريكيًّا على غزة، رأت صنعاء أنّ الخطر لا يهدّد فلسطين وحدها، بل الأمن الإقليمي برمّته، في ظلّ تحالفٍ عسكريٍ دوليٍّ يمارس العدوان بغطاءٍ سياسيٍّ وقانونيٍّ زائف.
ثانيًا: مبدأ “مسؤولية الحماية”
وهو المبدأ الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 2005 بوصفه التزاما أخلاقيًا وقانونيًا لحماية المدنيين من الإبادة والانتهاكات الجسيمة، لكن حين عطّل “الفيتو الأمريكي” هذا المبدأ مرارًا، تحوّل إلى نصٍّ ميتٍ في دفاتر الأمم، فكان لا بدّ من أن تتحَرّك دولة تمتلك ضميرًا حيًّا لتذكّر العالم أن الشرعية ليست حكرًا على الكبار.
ثالثًا: قرار “الاتّحاد؛ مِن أجلِ السلام” (1950)
ذلك القرار التاريخي رقم (377)، الذي منح الدول الأعضاء حقَّ التحَرّك الجماعي حين يفشل مجلس الأمن؛ بسَببِ الفيتو، وهو القرار ذاته الذي استندت إليه حركات التحرّر في القرن الماضي لاستعادة حقّها في المقاومة، وهو اليوم يُعاد إحياؤه من بوابة صنعاء، لتذكير العالم بأن الشرعية الحقيقية لا تموت.
فراغٌ أخلاقيٌّ في منظومةٍ تدّعي العدالة
لقد كشفت الحرب على غزة عُري النظام الدولي من كُـلّ قناعٍ أخلاقي.
لم تعد الأمم المتحدة منصةً لحماية المظلومين، بل مكتبًا سياسيًّا لتبرير جرائم الأقوياء.
وفي هذا المشهد القاتم، جاء الموقف اليمني كاختبار جديدٍ للشرعية، ليقول للعالم: إنّ العدالة ليست قرارًا أمميًّا، بل موقفٌ إنسانيٌّ لا يُقاس بعدد المقاعد في مجلس الأمن.
الصمت الغربي الممنهج، والتواطؤ السياسي السافر، وضعا المنظومة الدولية أمام محكمة التاريخ، بينما وضع الموقف اليمني الأُمَّــة أمام مرآةٍ من الضوء تقول: “ما زال في هذا العالم من يُدافع عن الإنسان؛ لأَنَّه إنسان”.
الضمير قبل السلاح
لم يكن دعم اليمن لغزة دعمًا تقنيًّا أَو إعلاميًّا، بل تجسيدًا لمفهومٍ جديدٍ للقوة المشروعة.
فالقوة –في فلسفة القانون الإنساني– لا تُقاس بمدى التدمير، بل بقدرتها على صون الحياة.
وهنا تبرز المبادئ الثلاثة التي ميّزت الموقف اليمني:
تحويل القيم الإنسانية إلى فعلٍ واقعيٍّ لا إلى بياناتٍ باردة، إعادة تعريف الشرعية على أَسَاس العدالة لا المصلحة، وتأكيد أنّ حماية الإنسان أسمى من كُـلّ حسابٍ سياسيٍّ أَو اقتصاديٍّ.
بهذا المعنى، لم يكن اليمن “يقاتل” فقط، بل كان يُشرّع للكرامة، ويعيد الاعتبار لمفاهيمٍ غيّبتها السياسة منذ عقود.
الحقّ القانونيّ والدفاع عن الوجود
من منظور القانون الدولي، لا تزال غزة أرضًا محتلّة، وما يمارسه الكيان الإسرائيلي من عدوانٍ متواصل يمثّل انتهاكا صارخًا للمادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، التي تحظر استخدام القوة ضد سيادة الشعوب.
وقد أكّـد القرار الأممي (37/43) لعام 1982 على حقّ الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في مقاومة العدوان بكلّ الوسائل، بما فيها الكفاح المسلّح.
ذلك الحقّ ليس هبةً من مجلس الأمن، ولا تنازلًا من القوى الكبرى، بل حقٌّ طبيعيٌّ في الدفاع عن الوجود والهُــوية.
وفي مواجهة محاولات الخلط بين الإرهاب والمقاومة، جاء الموقف اليمني ليعيد التوازن إلى المفاهيم: فالمقاومة الفلسطينية تُحارب الاحتلال، والإرهاب يصنعه عبر قتله للمدنيين واغتصابه للأرض، فيما كان اليمن منهمكًا في إعادة رسم الخريطة الأخلاقية للعالم.
لقد أثبت اليمن أن الإرادَة الشعبيّة ليست حبرًا على ورق، وأنّ الدول الصغيرة قادرة على قلب موازينٍ أخلاقيةٍ كانت محصورة في أيدي القوى الكبرى.
كما أظهر هذا الموقف أن العدالة لا تُستورد من الخارج، بل تُصاغ بدماء الشعوب، وأن الشرعية تُكتسب من الموقف لا من الاعتراف الدولي، وأنّ الشعوب الحرّة قادرة على كسر احتكار القيم المعلّبة من الخارج، وفتح طريقٍ جديدٍ أمام العالم.
مخاضٌ مخضبٌ بالدم!
ما يعيشه العالم اليوم ليس مُجَـرّد أزمة سياسية، بل تحوّلٌ أخلاقيٌّ شامل.
لقد سقطت الأقنعة، وانهارت أوهام الحياد، وولدت من بين أنقاض غزة ومنابر صنعاء ملامحُ نظامٍ عالميٍّ جديد، نظامٌ تُقاس فيه القوة بمدى التزامها بالإنسان، وتُعرَّف فيه الشرعية بقدرتها على حماية الضعفاء لا خذلانهم.
والخلاصة من كُـلّ ما سبق: إنّ اليمن، وهو يخوض معركةً سياسيةً وأخلاقيةً فريدة، لم يخرج على القانون الدولي، بل أعاده إلى جوهره الأول: الدفاع عن الإنسان في وجه الظلم.
أما فلسطين، فهي لا تطلب من العالم أكثر من أن يعترف بحقّها في الوجود.
ومن لا يرى في مقاومتها شرعيةً، فقد تنازل عن إنسانيته قبل أن يتنازل عن قانونه.
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ صدق الله العليُّ العظيم.