اليمن في حضرة النبي.. صوت يعلو على الخنوع!

ياسر مربوع

في صنعاء هذه الأيّام، كما في كُـلّ الجغرافيا اليمنية المحرّرة، حين تغرب الشمس، تشتعل شوارعها بالأضواء الخضراء السندسية. ليست مُجَـرّد زينة موسمية، بل لغة رمزية تختزن تاريخًا وهُوية.

كأن المدينة تقول للعالم: ما زُلنا هنا، نحمل راية محمد صلى الله عليه وآله، ونعلن تمسكنا برسالته.

في الوقت الذي تحاول فيه الجغرافيا العربية الانحناء تحت ثقل المشروع الإمبريالي، يظهر اليمن ليقدم نفسه كآخر القلاع العربية الأصيلة، حَيثُ تتحول الذكرى الدينية إلى موقف سياسي وإنساني واستراتيجي.

الخروج المليوني الذي اعتاده اليمنيون في ذكرى المولد لم يكن في أي يوم مُجَـرّد طقس فولكلوري.

إنه كما وصفه السيد حسين بدر الدين الحوثي: «النبي محمد لم يأتِ ليكون مُجَـرّد شخصية تاريخية، بل جاء ليقود الأُمَّــة نحو التحرّر».

وهذا بالضبط ما يفسر أن الحشود المليونية كانت أشبه باستفتاء شعبي متكرّر: نحن أُمَّـة محمد، نرفض الاستسلام، ونرى في نبيه قائدًا حيًّا لحاضرنا.

وهذا ما عبّر عنه “أنطونيو غرامشي” بـ”هيمنة الوعي”: القدرة على صناعة معنى يفرض نفسه على المجتمع ويجعله عصيًّا على الانكسار.

لكن لا يمكن قراءة هذه اللوحة إلا في سياقها الإقليمي.

عامان من الحرب على غزة كشفا أن (إسرائيل)، رغم ترسانتها العسكرية ودعمها الغربي، عاجزة عن تحقيق حسم كامل.

هنا يطل اليمن من خاصرته البحرية، ليربك كُـلّ الحسابات الشيطانية لقوى الاستكبار العالمي، ويضع نفسه لاعبًا مباشرًا في معركة لم تعد فلسطينية خالصة، بل إسلامية–إنسانية ممتدة.

وهكذا يصبح المولد في اليمن ليس احتفالًا داخليًّا فحسب، بل إعلانٌ أن هذه الأرض اختارت موقعها: في قلب الصراع ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني.

كما قال السيد عبد الملك الحوثي: «الاحتفال بالمولد النبوي ليس طقسًا دينيًّا فحسب، بل إعلان موقف: نحن أُمَّـة محمد، نواجه أعداءه ونمضي في خطه».

وسط هذا المشهد، يظهر التناقض الحاد: أنظمة عربية تسابق الزمن لتقديم أوراق اعتمادها في تل أبيب وواشنطن، بينما اليمن، المحاصر والمنهك، يصرّ على أن يقف وحيدًا لنصرة غزة “المظلومية الأكبر في العصر الحديث”.

قد يبدو هذا ضربًا من المغامرة، لكنه في العمق تجلٍ لما أشار إليه مالك بن نبي حين قال: «الأمم العظيمة لا تحيا بالخبز وحده، بل بالرموز التي تمنحها معنى».

فالجائع في صنعاء، حين يخرج في المولد، لا يبحث عن خبز يومه فقط، بل يشارك في صناعة معنى يجعله قادرًا على مواجهة أقوى منظومات السلاح في العالم.

المشروع الإمبريالي اليوم لا يكتفي بالهيمنة العسكرية أَو الاقتصادية، بل يسعى، كما أوضح ميشيل فوكو، إلى “زرع السلطة في العقول”.

وهنا تكمن خطورة المولد في اليمن بالنسبة لخصومه: إنه يعيد تشكيل وعي جماعي مضاد.

كُـلّ ضوء أخضر يزيّن شارعًا، كُـلّ أنشودة تملأ مسجدًا، كُـلّ طفل يرفع علمًا، هو في نظر المشروع الأمريكي–الصهيوني تهديد؛ لأَنَّه يثبتُ أن الوعيَ المقاوِمَ لم يُكسر.

اليمن اليوم؛ إذ يتأهب للمولد، يكرّر ما قاله الشهيد القائد: «إننا أُمَّـة محمد، إن لم نتحَرّك في مواجهة أعدائه فَــإنَّنا نخونه».

وهنا تتضح معادلة المناسبة: ليست مُجَـرّد مدائح أَو أهازيج، بل تذكير عملي أن خيانة النبي تعني الاستسلام للمستكبرين، وأن الوفاء له يعني الاستعداد لدفع كلفة الموقف، ولو وحيدًا.

إن المولد النبوي في اليمن هذا العام يأتي كلوحة مركبة: نور روحي يعيد الأُمَّــة إلى نبيها، ونار سياسية تعلن مواجهة الإمبراطورية الغربية.

وفي زمن خانع، تخلت فيه العواصم عن قضاياها، وتركت غزة للجوع وللقتل، يقف اليمن ليقول إنه آخر القلاع العربية، آخر من يحرس الإنسانية ويقدمها بصورتها الحقيقية، بعيدًا عن كُـلّ مساحيق التجميل، آخر من يرفع راية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا في الكتب ولا في المدائح فقط، بل في الميدان، في السياسة، وفي الوعي الشعبي لبلدٍ أرهق أعداءه بكل هذا الصمود.

 

قد يعجبك ايضا