هل أخطأت المقاومة بإقدامها على الطوفان؟
د. كمال ميرزا*
قبل الاشتباك مع مثل هذا السؤال، هناك نقطة أشدّ خطورة لا بدّ من التطرّق إليها!
كثيرون، ولدوافع خبيثة غالباً، يحاولون الخلط بين سؤال: هل أخطأت المقاومة؟ وسؤال: هل المقاومة خطأ؟
هذه الفئة المُغرضة، وجلّها من القادة والمسؤولين والسياسيّين والمحلّلين والإعلاميّين والكتّاب المأجورين، وبطريقة لا تخلو من استغفال للناس واستخفاف بعقولهم، يتعاملون مع السؤالين باعتبارهما سؤالاً واحداً، لذا نراهم يجتهدون حدّ الاستماتة في إثبات أنّ المقاومة قد أخطأت ليقيموا الحُجّة في أذهان الناس على أنّ المقاومة برمّتها، كخيار، وكمقاربة، وكطريقة للنضال من أجل نيل الحقوق، هي بحدّ ذاتها خطأ، وبالتالي لا بدّ من اللجوء إلى أساليب أخرى كـ “المقاومة السلميّة” أو “النضال الحقوقيّ” أو “الجهاد الديبلوماسيّ”.. وجميعها صيغ تلطيفيّة تلفيقيّة هدفها تسويغ تماهي هؤلاء مع مخطّطات العدو ومشاريعه، وتنفّعهم منها، والأدوار الوظيفيّة التي يؤدونها بهذا الخصوص!
أمثال هؤلاء من أصحاب “الخطاب العميل” يحاولون الالتفاق على حقيقة أنّ المقاومة كمقاومة، هي الصواب الوحيد، وهي الثابت الوحيد، وهي مصدر الصلابة الوحيد وسط سيولة الهيمنة وميوعة التبعيّة التي يحيا بها البشر عموماً، والعرب تحديداً، بفعل عقود وعقود من السياسات الرسميّة الممنهجة على مستوى كلّ دولة ومنطقة، وعلى مستوى النظام العالميّ ككلّ!
المقاومة هي الصواب الوحيد سواء من منظور الالتزام الدينيّ..
أو منظور الواجب القوميّ..
أو منظور الوازع الأخلاقيّ والإنسانيّ..
أو حتى من منظور ماديّ نفعي برجماتيّ بحت؛ إذ كيف يمكن لعدو أو خصم أن يقيم لك وزناً، وكيف يمكن أن يقدم لك تنازلات ويمنحك مكتسبات، وما الذي سيمنعه من استباحتك تماماً.. ما لم يكن لديك شيء يخشاه هذا العدو، وما لم يكن لديك حدّ أدنى من القوّة والقدرة على إيذاء هذا العدو وإيلامه؟!
وهنا لدينا مثال صارخ واضح وضوح الشمس لا يحتاج إلى شرح أو تأويل: نظرة الكيان الصهيونيّ إلى ما تُسمّى السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتعامله معها وكأنّها “هَفيّة” أو غير موجودة!
وحتى “السلام”، ردّاً على أولئك الأفّاقين الذين يختبئون وراء ثيمة السلام كـ “حلّ” وكـ “خيار إستراتيجيّ”، فإنّه لا يكون سلاماً حقيقيّاً ما لم يتوفر حدّ أدنى من القوّة والنديّة وتوازن الرعب والردع.
وهنا مرّة أخرى لدينا كأمثلة علاقة الكيان الصهيونيّ بالأنظمة العربيّة التي سبق له التورّط في اتفاقيات سلام أو تطبيع مع الكيان (أو حتى التي تعتزم ذلك)، واستخفاف الكيان بها، وتعمّده إظهارها بمظهر الخائفة منه أو العاجزة أمامه، وبمظهر التي تسبح في فلكه وتقوم على تأمينه وحمايته ومنحه العمق الإستراتيجيّ الذي يحتاجه، وتعمّده إحراج هذه الأنظمة بمناسبة ودون مناسبة من خلال تصريحاته العدائيّة والهجوميّة، وعدم تكبّده عناء حفظ الحدّ الأدنى من ماء وجه هذه الأنظمة أمام شعوبها وأمام الآخرين!
بالعودة إلى سؤال: هل أخطأت المقاومة بإطلاقها معركة “طوفان الأقصى” المباركة؟
الجواب ببساطة: لا، المقاومة لم تخطئ!
فـ “طوفان الأقصى” كما قالت المقاومة صراحةً وأكثر من مرّة قد جاء كـ “ضربة استباقيّة” لمخطّط موجود ومُسبق، وبصورة أربكت حسابات العدو، وسلبته المبادرة والأفضليّة في حال تُرك الأمر له ليقرر “ساعة الصفر” والكيفيّة!
ومنحى “الإبادة والتهجير” الذي اتخذه سلوك العدو مباشرةً منذ اليوم التالي للطوفان قد جاء دليلاً على وجود هذا المخطّط الشيطانيّ المبيّت؛ فأنت لا تصحو من النوم وتقرّر فجأةً أن تبيد وتهجّر شعباً بأكمله! مثل هذا القرار لا يمكن أن يكون وليد اللحظة، على الأقل بكونه يحتاج إلى شهور طويلة من الإعداد والتحضير ورسم خطط العمليّات والتعبئة وحشد الموارد!
ومع هذا نجدّ الكثيرون يصرّون على التعامل مع سلوك العدو الإجراميّ باعتباره “ردّ فعل” بما يمنحه مبرّراً ومسوّغاً، ويضفي عليه طبيعيّةً و”شرعيّة” ومعقوليّةً.
وفي المقابل، نجد هؤلاء يصرّون على ثيمة أنّ المقاومة بـ “فعلتها” هي التي منحت العدو “الذريعة”، وكأنّ العدو قد احتاج يوماً إلى ذريعة أو كان سيعييه افتعال واحدة إذا أراد ذلك!
الخيار الوحيد الممكن لتجنيب غزّة وأهلها ويلات الإبادة والتهجير كان أن يبادروا من تلقاء أنفسهم بالاستسلام، وتسليم سلاحهم ومفاتيح قطاعهم للعدو، وحمل حقائب ملابسهم وسقط متاعهم، والمغادرة طواعيةً وبهدوء إلى منافيهم ومواطن شتاتهم الجديدة!
ولكن حتى هذا الخيار لم يكن ليُقبل منهم؛ فالأنظمة المتواطئة مع تهجيرهم، سواء المتواطئة جهاراً نهاراً أو من تحت لتحت، لن تقبل استقبالهم دون أن يتمّ أولاً “تصفيتهم” من “العناصر الخطرة” كي لا تصبح “عبئاً أمنيّاً” عليها، وكي لا يعيد “المهجّرون” إحياء مشروع مقاومتهم وعودتهم من مواطن استقرارهم الجديدة!
المقاومة لم تخطئ في إطلاق معركة “طوفان الأقصى”، كما لم تخطئ في تقدير إلى أي مدى يمكنها التعويل على صمود حاضتها الشعبيّة وثباتها.
فبخلاف الخطاب الإعلاميّ المسموم الذي يحاول تصوير قطاع غزّة وكأنّه مُختَطف من قبل المقاومة، وتصوير المقاومة وكأنّها عناصر أجنبيّة أتت من الخارج أو هبطت من الفضاء وأحكمت قبضتها على غزّة، لدرجة أغرت مجرم حرب وكلب مسعور مثل “نتنياهو” بالتماديّ والتبجّح بأنّه يريد “تحرير” غزّة وأهلها من المقاومة.. فإنّ المقاومة هي أهالي غزّة، وأهالي غزّة هم المقاومة!
بكلمات أخرى، المقاومة في غزّة هي وليدة مجتمعها، وانعكاس للحالة الجمعيّة التي يمثّلها أهالي غزّة.. وليس العكس!
وهذا سبب إضافيّ للإبادة والتهجير”، والإبادة قبل التهجير، من أجل تصفية هذه الحالة برمّتها، والقضاء عليها، ودفنها في أرضها بالمعنى المجازيّ والحرفيّ للكلمة!
طبعاً مثل أي مجتمع إنسانيّ آخر لا يخلو المجتمع الغزّاوي من تباينات واختلافات وانقسامات (يحاول الإعلام تضخيمها وإبرازها)، بل ومن خون وعملاء ومتكسّبين (يحاول العدو استغلالهم وتوظيفهم)، أو حتى من لا-أباليّين همّهم في نهاية المطاف أن يأكلو ويشربوا ويناموا ويستمرّوا في العيش.. ولكن تبقى “المقاومة” و”إرادة المقاومة” هي النمط السائد والسمة الغالبة على المجتمع الغزّاوي.
الخطأ الوحيد الذي يمكن أن يُنسب للمقاومة، هو سوء تقديرها لردّ فعل الأنظمة العربيّة والإسلاميّة (وشعوبها).
فصحيح أنّ المقاومة عندما اتخذت قرارها، وأقدمت على ما أقدمت عليه، لم تكن تعوّل على نوبة شجاعة مفاجئة، أو نوبة شرف مباغتة، أو حتى نوبة “برجماتيّة”.. يمكن أن تجتاح الأنظمة العربيّة!
“النخوة العربيّة” لم تكن من ضمن الفرضيّات التي بنت عليها المقاومة خطّتها الأساسيّة!
بل هي تعرف تماماً حقيقة كلّ نظام من هذه الأنظمة وإن كانت لا تستطيع المجاهرة بذلك لأسباب دبلوماسيّة وتعبويّة تمليها طبيعة المواجهة!
ولكن في المقابل المقاومة لم تكن تتصوّر حجم الانحطاط الذي يمكن أن تبلغه بعض هذه الأنظمة، و”الخنزرة” التي يمكن أن تبديها، وتماهيها التام مع العدو الصهيونيّ، وحرصها عليه أكثر من حرصه على نفسه، وتكريس نفسها من أجل إنجاح مخطّطاته، وإتمام ما لم يستطع اتمامه، وانتشاله من ورطاته وإخفاقاته!
لو أنّ هذه الأنظمة اكتفت بالوقوف على الحياد وفقط.. لكانت هذه مأثرة تسجّل بحقّها!
حتى النجاحات التي يُفترض أنّ العدو قد استطاع تحقيقها “بذراعه”، مثل اغتيال القيادات، واستهداف المقار وغرف العمليات ومخازن الأسلحة، واختراق شبكات الاتصال.. فإنّ العامل الحاسم فيها ليس التفوّق التقنيّ والقدرات التكنولوجيّة على أهميتهما وحساسيتهما، بل “العنصر البشريّ”، أي وجود خائن ما أو عميل ما على استعداد لنقل المعلومة، أو إعطاء إحداثيّات، أو منح نقطة ولوج للشبكة والمنظومة!
المقاومة لم تخطئ.. ومبدأ المقاومة نفسه ليس خطأً ولا يمكن أن يكون كذلك في يوم من الأيام!
والخوض في مثل هذه النقاشات والمهاترات والمغالطات، في مثل هذا التوقيت تحديداً، هو ضرب من الخيانة والعمالة، وإمعانٌ في طعن المقاومة في ظهرها، وتفريطٌ بكلّ الدماء والتضحيات والأثمان الباهظة التي دفعها أهالي غزّة لغاية الآن!
وبالنسبة لنا كشعوب فإن تفاعلنا مع مثل هذه النقاشات ومثل هذا المنطق هو إمعان في الإنكار والمكابرة، ومحاولة سمجة لنفاق النفس، والتنصّل من المسؤوليّة، وغض النظر عن كلّ الخذلان الحاصل، وعن الموبقات التي تُقترف (وستقترف) باسمنا ومن خلالنا، وخوفنا من تسميّة الأشياء بمسمّياتها، واستعدادنا للتواطؤ مع الصمت والكذب، واستعدادنا لطاعة المخلوق في معصية الخالق متى ما طُلب منّا هذا أو استدعت مصالحنا الشخصيّة اليوميّة الضيقة ذلك!
*كاتب اردني