بُشْرَى النُّبُوَّةِ

 للشَّاعر عبدُالله البَرَدُّوني

بُشرى من الغَيْبِ ألقَتْ في فم الغار

وحْياً و أفضَتْ الى الدُّنيا بأسرارِ

بُشرى النُّبوَّةِ طافَتْ كالشَّذى سَحَراً

وأعْلنَتْ في الرُّبى مِيْلادَ أنْوارِ

وشقَّتِ الصَّمتَ و الأنْسَامُ تحْمِلُها

تِحْتَ السَّكينةِ من دارٍ إِلى دار

وَهَدْهَدَتْ (( مكَّةَ )) الوَسْنَى أناملُهَا

و هزَّتِ الفجرَ إِيذاناً بإِسْفَارِ

فأقبلَ الفجرُ من خَلْفِ التِّلالِ و في

عَيْنَيْهِ أسْرارِ عشَّاقٍ و سُمَّارِ

كأنّ فَيْضَ النَّدى في كلِّ رابيةٍ

مَوْجٌ وفي كلِّ سفْحٍ جدولٌ جاري

تدافعَ الفَجْرُ في الدُّنْيَا يزفُّ إلى

تاريخها فجرَ أجيالٍ وأدهارِ

و استقبلَ الفتحُ طفلاً في تبسُّمِه

آياتُ بُشرى و إيماءاتُ إنذار

وشبَّ طفلُ الهُدى المنشودُ متِّزِراً

بالحقِّ متَّشحاً بالنُّور والنَّار

في كفِّه شعلةٌ تهدي وفي فمهِ

بشرى وفي عَيْنهِ إِصْرارُ أقدار

وفي ملامحِه وعدٌ وفي دمِه

بطولةٌ تتحدَّى كلَّ جبَّار

و فاضَ بالنُّور فاغتمَّ الطُّغاةُ بِهِ

و اللِّصُّ يخْشَى سُطوعَ الكوكبِ السَّاري

و الوعْيُ كالنُّورِ يُخْزِي الظَّالمين كما

يُخْزِي لصوصَ الدُّجى إِشراقُ أقمار

نادى الرَّسُولُ نداءَ العدلِ فاحتشدت

كتائبُ الجُودِ تَنْضي كلَّ بتَّارِ

كأنَّها خلْفَه نارٌ مجنّحةٌ

تعدوْ و قَدَّامَه أفواجُ إعْصَار

فضجَّ بالحقَّ و الدَّنيا بما رَحُبَتْ

تَهْوِي عليهِ بأشْداقِ وأظفارِ

و سارَ والدرَّبُ أحْقَادٌ مسلَّحةٌ

كأنَّ في كلِّ شبرٍ ضيغماً ضارِي

وهبَّ في دَرْبِه المرْسومِ مُنْدفِعاً

كالدَّهرِ يقْذِفُ أخْطاراً بأخطار

فأدْبَرَ الظُّلمُ يلقى ها هُنا أجلاً

و هَا هُنا يتلقَّى كفَّ … حفَّار

و الظُّلمُ مهما احْتَمت بالبَطْشِ عُصْبَتُهُ

فلم تُطِقْ وقفةً في وجْهِ تيَّار

رأى اليتيمُ أبو الأيتامِ غايتَه

قُصْوَى فشقَّ إليها كلَّ مِضمار

و امتدَّت المِلَّةُ السَّمْحا يَرِفُّ على

جَبِيْنِها تَاجُ إِعظامٍ و إِكبار

مضى إِلى الفتحِ لا بَغياً ولا طمعاً

لكن حناناً وتطهيراً لأوْزارِ

فأنْزلَ الجَوْرَ قبراً وابتنى زمناً

عَدْلاً … تُدبِّرهُ أفكارُ أحرار

ياقاتلَ الظلمِ صالت ها هُنا وهُنا

فظائعٌ أيْنَ منها زَندُك الواري

أرضُ الجنوب دياري وْهيَ مهْدُ أبي

تئِنُّ ما بين سَفَّاح و سَمْسَارِ

يشدُّها قيدُ سَجَّانٍ وينهشُها

سَوْطٌ… ويحدو خُطَاها صوتُ خمَّارِ

تعطي القيادَ وزيراً وهو متَّجِرٌ

بجوعِها فهو فيها البائع الشاري

فكيف لانتْ لجلاَّدِ الحمى “عَدَنٌ”

وكيف ساس حماها غدرُ فجَّارِ؟

وقادها زعماءٌ لا يبرِّرُهم

فعلٌ وأقوالُهم أقوالُ أبرارِ‏

أشباهُ ناسٍ وخيراتُ البلادِ لهم

يا لَلرَّجال – وشعبٌ جائعٌ عاري

أشباهُ ناسٍ دنانيرُ البلادِ لهم

ووزنُهم لا يساوي ربعَ دينارِ

ولا يصونون عند الغدرِ أنفسَهم

فهل يصونون عهد الصَّحبِ والجارِ

ترى شخوصَهمُ رسميةً وترى

أطماعَهم في الحِمى أطماعَ تجارِ

أكادُ أسخرُ منهم ثم تضحِكُني

دعواهمُ أنَّهم أصحابُ أفكارِ

يبنون بالظُّلمِ دُوراً كي نمجِّدَهم

ومجدُهم رجسُ أخشابٍ وأحجارِ

لا تُخبرِ الشَّعبَ عنهم إن أَعْيُنَهُ

ترى فظائعَهم من خلفِ أستارِ

الآكلون جراحَ الشَّعبِ تخبرُنا

ثيابُهم أنَّهم آلاتُ أشرارِ

ثيابُهم رَشوةٌ تُنبي مظاهرُها

بأنَّها دمعُ أكبادٍ وأبصارِ

يَشْرون بالذُّلِ ألقاباً تستِّرُهم

لكنهم يسترون العارَ بالعارِ

تحسُّهم في يدِ المستعمرين كما

تحسُّ مِسبَحةً في كفِّ سحَّارِ

ويلٌ وويلٌ لأعداءِ البلادِ إذا

ضجَّ السكونُ وهبَّت غضبةُ الثارِ

فليغنمِ الجَورُ إقبالَ الزَّمانِ لهُ

فإنَّ إقبالَهُ إنذارُ إدبارِ

والناسُ شرٌّ وأخيارٌ وشرُّهمُ

مُنافقٌ يَتَزَيَّا زيَّ أخيارِ

وأضْيَعُ الناسِ شَعبٌ باتَ يَحرسُهُ

لصٌّ تُستِّرُهُ أثوابُ أحبارِ

في ثَغرِهِ لغةُ الحاني بأمَّتِهِ

وفي يديهِ لها سكِّينُ جزَّارِ!

حِقدُ الشعوبِ براكينٌ مسمَّمةٌ

وقودُها كُلُّ خوَّانٍ وغدَّارِ

من كلِّ محتقرٍ للشَّعبِ صورتُهُ

رسمُ الخياناتِ أو تمثالُ أقذارِ

‏وجثَّةٌ شوَّشَ التعطيرُ جيفتَها

كأنَّها ميتةٌ في ثوبِ عطَّارِ

بين الجنوبِ وبين العابثين به

يومٌ يحنُّ إليه يومُ “ذي قارِ”

يا خاتَمَ الرُّسلِ هذا يومُك انبعثت
ذكراه كالفجرِ في أحضانِ أنهار

يا صاحبَ المبدأِ الأعلى، وهل حمَلت
رسالةَ الحقِّ إلا روحُ مختار؟

أعلى المبادىءِ ما صاغت لحامِلها
من الهدى والضحايا نُصبُ تذكار

فكيف نذكرُ أشخاصاً مبادئُهم
مبادىءُ الذِّئبِ في إقدامِه الضَّاري؟!

يبدون للشَّعبِ أحباباً وبينَهم
والشَّعب ما بين طبعِ الهرِّ والفار

ما لي أغنيك يا “طه” وفي نغَمِي
دمعٌ وفي خاطري آمالُ ثوَّار؟

تململت كبرياءُ الجرحِ فانتزفت
غَيضِي على الجَورِ من أغوارِ أغواري
* * *
يا “أحمدَ النورِ” عفواً إن ثأرتُ ففي
صدري جحيمٌ تشظَّت بين أشعاري

“طه” إذا ثارَ إنشادي فإنَّ أبي
“حسَّانُ” أخبارُه في الشِّعرِ أخباري

أنا ابنُ أنصارِك الغرِّ الألى قذفوا
جيشَ الطغاةِ بجيشٍ منك جرَّار

تظافرت في الفدى حوليك أنفسُهم
كأنَّهنَّ قلاعٌ خلفَ أسوار

نحن اليمانين يا “طه” تطيرُ بنا
إلى روابي العلا أرواحُ أنصار

إذا تذكَّرت “عمَّاراً” ومبدأَهُ
فافخر بنا: إنَّنا أحفادُ “عمَّار”

“طه” إليك صلاةُ الشَّعرِ ترفعُها
روحي وتعزِفُها أوتارُ قيثار

قد يعجبك ايضا