قصة من آلاف القصص في غزة: مريم.. حكاية ووجع لا ينطفئ إلا بالتحرير

الحقيقة ـ جميل الحاج

د. فايز أبو شمالة .. بعض من قصص غزة الحزينة، والتي تجرح الفؤاد.. اسمها مريم

مريم تزوجت من شاباً من عائلة حمدان، استشهد خلال العدوان الإسرائيلي على غزة سنة 2021، وتركها حاملاً، ولدت مريم طفلة، وأحبتها كما أحبت أبيها، وتربت في حضنها حتى سنة 2025،

قبل عدة أشهر من هذه السنة، وافقت مريم على الزواج من شاب في خان يونس اسمه حاتم، كانت الطائرات الإسرائيلية قد قصفت خيمته، فاستشهدت زوجته وبعض أولاده، ولم يبق له إلا ولد واحد

تزوجت مريم الأرملة أم الطفلة من الشاب الأرمل حاتم أبو الطفل، وصارت لهما أسرة رائعة.

قبل شهر، قصفت الطائرات الإسرائيلية بيت الزوجين مريم وحاتم، فاستشهدت الطفلة ابنه مريم، واستشهد الطفل ابن حاتم، وأصيب حاتم نفسه بجراح نقل على إثرها إلى المستشفى

قبل أيام ـ بعد أسبوعين من هدنة ترامب الكاذبة ـ خرج حاتم من المستشفى، فتلقفته الطائرات الإسرائيلية، فاستشهد حاتم، وترك من بعده زوجته مريم حاملاً، تنتظر طفلاً يتيماً.

https://x.com/FayezShamm18239/status/1984653945768198167

مريم… حكايةٌ أُنهِكَت بالحرب، ووجعٌ لا ينطفئ

في غزة، حيث تتوالد المآسي كما تتوالد الأنفاس، وحيث تتبدل الوجوه لكن تبقى الحكايات نفسها؛ جرحٌ فوق جرح، وقصةٌ فوق أخرى، ووطنٌ بأكمله يُعاد صياغته بالدم والغياب.

 في تلك الرقعة المحاصَرة التي تعلَّمت أن تحيا على حافة الموت، كانت مريم واحدةً من آلاف الوجوه التي عاشت كل أطوار الوجع: والدة شهيد، زوجة شهيد، وأمًّا لطفلةٍ قطفها الصاروخ قبل أن تنضج أحلامها.

هذه ليست قصة سياسية، ولا تقريراً عن حجم الدمار، بل محاولة لالتقاط خيطٍ رقيق من حياة إنسانين، بل ثلاثة، أربعة، ثم صفر حصدتهم الحرب واحداً تلو الآخر، حتى لم يبقَ إلا امرأةٌ حُفرت في قلبها مقبرة كاملة.

فصول الحكاية الأولى: مريم وأول الغياب

كانت مريم شابةً غزية بسيطة، تزوجت شاباً من عائلة حمدان، شاباً عرفته طيباً، حنوناً، يخطط لبناء بيتٍ صغير في أحد أحياء غزة المكتظة. لكن ذلك العام—عام 2021—لم يكن عاماً عادياً. في تلك الأيام التي لم ينسها الغزيون، كانت السماء تمطِر ناراً، وفي إحدى الغارات استشهد زوج مريم، تاركاً خلفه زوجةً حامل وذكرى لم تكتمل.

لم تكن مريم تعرف أن طفلها الذي لم يرَ النور بعد سيولد يتيماً. وحين جاءت طفلتها إلى الحياة، شبكت يدها الصغيرة بأصابع أمها كأنها تقول لها: «سأحمل جزءاً من أبي الذي غاب». كبرت الطفلة بين ذراعي أمها، وملأت غياب أبيها بضحكةٍ كانت بالنسبة لمريم باباً إلى الحياة مرة أخرى.

بين 2021 و2025، كانت الطفلة عالم مريم كله. ورغم الصعوبات، بقيت الأم صامدة، تزرع في ابنتها كل ما تبقى لها من دفء.

لقاء القدر: مريم وحاتم

وفي منطقة أخرى من غزة، كان حاتم يعيش فصلاً آخر من فصول الوجع. كان رجلاً من خان يونس، فقد زوجته وبعض أطفاله في قصفٍ دمّر خيمتهم، ولم ينجُ إلا ابنه الصغير، الذي بقي لصيقاً بوالده، يحتمي بصدره من خوف النوم ومن أصوات الطائرات.

حين وافقت مريم على الزواج من حاتم، لم يكن القرار سهلاً. كانت تحمل ذكرى زوجٍ شهيد، وتخشى أن تبدأ حياة قد لا تستمر طويلاً، لكن الحرب تجمع المهمومين بطريقة لا يعرفها أحد. تزوج الاثنان، والتحمت حكايتهما كجسدٍ واحد محترق بنصفه، لكنه يحاول للآخر أن يبقى.

كانت الأسرة الجديدة مزيجاً من يتيمَيْن التقيا تحت سقف واحد: طفلة مريم، وطفل حاتم، ثمّ قلبان يحاولان إعادة ترتيب الحياة في مدينة لا تعرف الاستقرار.

ورغم الظروف، كانت تلك الأسرة الصغيرة تكتشف شيئاً يشبه الفرح. كان الطفلان يلعبان، وكانت مريم تشعر للمرة الأولى منذ سنوات بأنها ليست وحدها في مواجهة الحياة.. أما حاتم، فكان يحسّ أن القدر منحه فرصةً أخرى ليكون أباً، لا ناجياً فقط.

الضربة التي لم تُبقِ شيئاً

لكن غزة كما تعوّد أهلها لا تمنح الهناء إلا بقدر ما تسترده لاحقاً بأضعاف، قبل شهر واحد فقط، قصفت الطائرات الإسرائيلية بيت مريم وحاتم، لم يكن هناك إنذار، ولا وقت للهروب، في دقائق قليلة، أصبح البيت ركاماً.

تحت الأنقاض، لفظت طفلة مريم أنفاسها الأخيرة، وكذلك طفل حاتم الوحيد، تلك اللحظة كانت نهاية الأسرة التي لم تُكمل عاماً من عمرها.

أصيب حاتم بجراح خطيرة، نُقل على إثرها إلى المستشفى، وظلت مريم تتمسّك بملابسه الملطّخة وهي غير قادرة على استيعاب ما حدث، كانت أمّاً فقدت ابنتها، وأماً تُحاول أن تهوّن على زوجٍ فقد ابنه، وإنساناً تحاول أن تفهم لماذا لا يوجد في غزة سوى دائرة واحدة تدور بين الميلاد والموت بسب الاحتلال الإسرائيلي المجرم.

بعد هدنةٍ كاذبة… غيابٌ آخر

مرت أيام ثقيلة، ثم أعلنت هدنة وُصفت بأنها تقود إلى «تهدئة إنسانية»، هدنة رآها الغزّيون امتداداً للصمت أكثر من كونها حياة، وبعد أسبوعين من تلك الهدنة التي سمّتها مريم «الكذبة الكبرى»، خرج حاتم من المستشفى يمشي بصعوبة، لكنه خرج، وكانت مريم تنتظر أن تعيده إلى بيتٍ جديد، أو حتى خيمة جديدة أي مكان.

لكن الطائرات لم تنتظر طويلاً. لم يكد حاتم يخطو خطواته الأولى في الهواء الطلق حتى لاحقته الغارة، استشهد حاتم، الرجل الذي فقد كل شيء، الرجل الذي عاد من تحت الحطام ليستشهد فوق الأرض بثوانٍ، تاركاً وراءه مريم… وحيدة مرة أخرى.

ولكن هذه المرة لم تكن مريم وحيدة تماماً، كانت تحمل في أحشائها طفلاً من حاتم، طفلاً سيولد كما وُلدت طفلتها الأولى: يتيماً قبل أن يرى أباه.

بين الأمس والغد: مريم تحمل غزة كلها

اليوم، مريم ليست مجرد امرأة تحمل طفلاً، إنها نموذجٌ مكثّف لعشرات الآلاف من النساء اللواتي يعيشن سلسلة الفقد نفسها، حكايتها ليست نادرة، بل تكاد تكون قاعدة يومية في غزة.

ومع ذلك، تبقى التفاصيل الخاصة بكل قصة هي ما يجعلها موجعة.. فحين تسمع اسم الطفلة، وترى يد حاتم المضمّدة في المستشفى، وتعرف أن الطفلين اللذين لعبا تحت سقف واحد قُتلا في ضربة واحدة، يصبح الوجع شخصياً جداً، وكأن غزة كلها تحولت إلى غرفة عزاء واحدة.

 غزة التي تكتب الحكاية ثم تعيد كتابتها

إن قصة مريم وحاتم وطفليهما ليست استثناءً في سجل العدوان الإسرائيلي على غزة؛ إنها واحدةٌ من آلاف القصص التي لا تصل إلى الشاشات، لكنها تُكتب بالدم في الأزقة، وتُروى في المستشفيات، ويخلّدها بكاء الأمهات.

في نهاية المطاف، تُعلّمنا غزة درساً قاسياً: أن الإنسان قادر على حمل ما لا يُحتمل، وأن المرأة فيها تحمل مرتين تحمل أطفالها في بطنها، وتحمل غزة كلها فوق كتفيها.

ومريم، رغم كل شيء، لا تزال تقف. تقف لأن الوقوف في غزة ليس خياراً، بل فرض حياة لأنها الاحتلال.

قد يعجبك ايضا