صنعاء تُمهل من أجل السلام.. لكنها لا تُهمل الردع

 بعد سنوات من الحرب والحصار، يقف اليمن اليوم أكثر قوة وثقة من أي وقت مضى، موجّهًا إنذارًا واضحًا إلى السعودية بضرورة تنفيذ بنود اتفاق السلام الذي تراجعت عنه الرياض تحت ضغط أمريكي وصهيوني، فبعد توقف الحرب على غزة، التي شارك فيها اليمن دعمًا للمقاومة الفلسطينية، تعود صنعاء لتضع ملف السلام في صدارة أولوياتها، لم تعد السعودية قادرة على الاستمرار في سياسة المماطلة، إذ يرى اليمنيون أن المملكة تهرب من استحقاقات السلام، بينما تواصل معاناة الشعب اليمني بسبب الحصار والعدوان المستمر، هذا الموقف اليمني الحازم يعكس تحوّلًا استراتيجيًا عميقًا؛ فاليمن لم يعد الطرف الضعيف الذي يُملى عليه، بل أصبح قوة إقليمية تفرض شروطها وتدافع عن كرامتها الوطنية في وجه أطماع الجار الذي شن حربًا ظالمة لعقد كامل دون أن يحقق شيئًا سوى الهزيمة.

اتفاق السلام المعلّق ومسؤولية الرياض

تفاهمات السلام التي وُقعت قبل عام ونصف بين صنعاء والرياض كانت بمثابة فرصة تاريخية لإنهاء الحرب، لكنها ضاعت بسبب تردد السعودية وتبعيتها السياسية لواشنطن، فبينما أبدت صنعاء استعدادًا حقيقيًا للسلام، اختارت الرياض المماطلة، محاولة كسب الوقت لإعادة ترتيب أوراقها بعد هزائمها الميدانية، هذا التلكؤ لم يكن ناتجًا عن ضعف في الإرادة فحسب، بل عن قناعة راسخة لدى النظام السعودي بأن اليمن يجب أن يبقى تابعًا سياسيًا واقتصاديًا له. إلا أن الواقع تغيّر؛ فأنصار الله استطاعوا فرض توازن ردع حقيقي، وأثبتوا أن زمن الهيمنة السعودية قد انتهى، الاتفاق الذي نصّ على وقف العدوان ورفع الحصار ودفع الرواتب وتبادل الأسرى بقي حبرًا على ورق، لأن الرياض لم تمتلك الجرأة لتنفيذه بعيدًا عن إرادة الأمريكيين، اليوم، ومع تغير المعادلات الإقليمية بعد غزة، تجد السعودية نفسها في موقف العاجز أمام صمود اليمنيين وإصرارهم على استعادة سيادتهم.

 اليمن بعد غزة… من التضامن إلى القوة

انخراط اليمن في دعم المقاومة الفلسطينية خلال حرب غزة شكّل نقطة تحول في مكانته الإقليمية، فبينما التزمت بعض الدول العربية الصمت أو التطبيع، اختار اليمن أن يكون في صف المظلومين، مدافعًا عن القدس وغزة رغم جراحه الداخلية، هذا الموقف أعاد لليمن هيبته كدولة حرة تضع مصلحة الأمة فوق المصالح الضيقة.

مشاركة صنعاء في “معركة البحر الأحمر” ضد السفن المرتبطة بالكيان الصهيوني لم تكن عملًا رمزيًا، بل رسالة واضحة بأن اليمن أصبح قوة فاعلة لا يمكن تجاوزها، بعد وقف العدوان على غزة، عادت القيادة اليمنية لتطالب السعودية بتنفيذ التزاماتها المؤجلة، مؤكدة أن من وقف مع فلسطين لن يقبل بأن يُظلم في أرضه، وهكذا تحوّل دعم اليمن لغزة إلى رصيد سياسي يعزز موقفه التفاوضي ويكشف زيف الادعاءات السعودية عن رغبتها في السلام، إذ اتضح أن الرياض لم تكن تبحث عن إنهاء الحرب، بل عن هدنة تحفظ ماء وجهها أمام فشلها العسكري والسياسي.

 صنعاء تُمهل ولا تهمل

القيادة اليمنية اليوم تتحدث بلغة الواثق من قوته، فالرئيس مهدي المشاط وأعضاء المجلس السياسي الأعلى أكدوا أن مرحلة المجاملات انتهت، وأن الرياض مطالبة بالانتقال من “خفض التصعيد” إلى “إنهاء العدوان الكامل”، اليمن قدّم ما يكفي من المرونة خلال العامين الماضيين، لكنه يرى أن صبره يُستغل لتكريس واقع الحصار.

تصريحات المسؤولين اليمنيين الأخيرة تعبّر عن موقف وطني جامع: لا سلام دون رفع الحصار، ولا تهدئة دون إنهاء الاحتلال، الإنذار الأخير ليس تهديدًا فارغًا، بل تحذيراً مبنياً على قدرات ميدانية أثبتت فاعليتها خلال السنوات الماضية، الرياض تعرف أن أي تجاهل للمطالب اليمنية سيقابله رد مؤلم، فموازين القوة تغيّرت، والطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية اليمنية قادرة على الوصول إلى عمق السعودية متى اقتضت الحاجة، لذلك، فإن خيار السلام اليوم ليس منّة سعودية، بل ضرورة تفرضها معادلات الردع الجديدة التي فرضها صمود صنعاء وشعبها. 

نهاية الهيمنة السعودية وبداية يمن جديد

الحرب التي بدأت بدعوى “إعادة الشرعية” تحولت إلى هزيمة سياسية وأخلاقية للمملكة، فالسعودية التي أنفقت المليارات لتدمير اليمن وجدت نفسها اليوم تفاوض من موقع ضعف أمام خصم صمد رغم الجوع والحصار، لم يعد ممكنًا إخفاء الحقيقة: اليمن خرج من الحرب أكثر قوة وتماسكًا، بينما غرقت السعودية في مستنقع من الفشل العسكري والتراجع الإقليمي.

العالم يرى اليوم أن صنعاء تمثل الدولة اليمنية الحقيقية، بينما فقدت الحكومة الموالية للرياض أي شرعية داخلية، استمرار السعودية في سياسة المماطلة لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة، المستقبل القريب سيكشف أن نهاية الهيمنة السعودية على اليمن ليست احتمالًا بل واقعًا سياسيًا يترسخ كل يوم، وأن اليمن الجديد يتشكل على قاعدة الاستقلال والسيادة ورفض التبعية لأي قوة خارجية.

في النهاية، اليمن اليوم يقف شامخًا بعد سنوات من الحرب والدمار، مستندًا إلى تضحياته وصموده في وجه العدوان، الإنذار الذي وجّهته صنعاء إلى الرياض ليس إعلان حرب، بل دعوة إلى سلام عادل يحترم سيادة اليمن وكرامة شعبه، لكن إذا اختارت السعودية الاستمرار في التعنت، فإن اليمنيين أثبتوا أنهم لا يهابون المواجهة، وأنهم قادرون على حماية أرضهم بوسائلهم الخاصة، لقد ولى زمن الوصاية، وجاء زمن القرار الوطني المستقل، ما بعد حرب غزة لن يشبه ما قبلها؛ فاليمن الذي دعم فلسطين لن يسمح أن يُستعبد أو يُحاصر مجددًا، إن تنفيذ اتفاق السلام اليوم ليس خيارًا سياسيًا بل استحقاقاً تاريخياً، وعلى السعودية أن تدرك أن يد اليمن الممدودة للسلام قادرة أيضًا على الردع إذا فُرضت عليها المعركة من جديد.

المصدر ـ الوقت التحليلي

قد يعجبك ايضا