هل ولّى عصر المقاومة وتحولنا إلى استجداء (الوسطاء) لردع الاعتداءات؟ هل تنازلنا عن كرامتنا وحقوقنا من أجل المساعدات والضمانات؟
خالد شـحام*
عقب تصويت مجلس الأمن في الأسبوع الماضي على مشروع (السلام ) الأمريكي في غزة العظيمة والاجماع بالموافقة على هذا المشروع المجحف ، تنتاب النفس مشاعر مختلطة بين الشعور بالظلم الشديد والحصار والخنق وازدراء هذا العالم ونفاقه وأكاذيبه ، ومع تراكب قطع الأحجيات من السودان إلى سوريا ولبنان وسائر بلاد الشقاء ، بات واضحـا أن العالم القديم الذي نعرفه من قوانين وعلاقات واتفاقات دولية ضابطة قد انتهى و بات شيئا من الماضي ، نحن الان نعاصر عالما تلموديا بالكامل ، حيث تُقصف الضحيةُ طيلة سنتين ثم تحاصر وتعتقل وتُعذب ، وعقب ذلك تأتي السياسات الأمريكية بثوب أممي ودولي لتضع الضحية نفسها تحت الوصاية ويتم التحكم بأكلها وشربها وحتى رمق الحياة فيها ، الضحية نفسها ذات الحقوق التاريخية والشرعية تُعقد معها ( اتفاقيات سلام ) ثم يُعاد الاعتداء عليها من أجل الدفع بها لاستجداء الرحمة وتدخل الوسطاء لإلزام العدو بما تم الاتفاق عليه ، ليس هذا فحسب بل يتوجب على الضحية ان تنتزع سلاحها وتلقيه أرضا وترفع يديها وتعتذر عن ماضيها النضالي ، حتى الحصول على طاقة نووية أو كهربائية أو مياه أو أية مشاريع مستقبلية يجب أن يخضع للرضى الصهيوني ، هذا هو التصور الإسرائيلي للضحية والذي ليس حصرا فقط على غزة ، بل هو ذاته المرسوم للبنان وسوريا و مصر والأردن والخليج العربي وايران وتركيا وباكستان وأية جهة يمكن ان تقع ضمن الهامش التهديدي في مزاج هذا العدو .
نحن أمام حالة عالمية من الاستسلام والتسليم الكامل لسطوة الولايات المتحدة ورغبتها العدوانية في فرض تصوراتها لعالم اليوم بأفدح ما يمكن أن يكون عليه الظلم ، والولايات المتحدة التي يفترض أن تكون القوة العالمية الأولى تتكشف عن الأخلاقيات التي تحكمها والتي تعبر عنها خير تعبير جزيرة جيفري أبشتين عميل الموساد والتي شخصت لكل الناظرين طريقة ادارة هذا العالم والتحكم به ، دول العرب والمسلمين تكشفت بشدة عن حالة من الضعف والهوان وفقدانها القدرة على تشكيل قوة أو تحالفات أو حتى حالة مواجهة معنوية ضد أعدائها ، سنوات العبث واللهو والتطفل على الحضارات والفساد الداخلي أوصلت كل هذه الدول إلى فقدان الريادة المعنوية والقومية والفكرية والعلمية والصناعية والبنيوية التي تؤهلها لمواجهة أي شيء ، وها هي اليوم تدفع الثمن ذلاً ومهانةً ، وتنتظر مصيرها المحتوم امام الإفلاس و تغيرات المناخ والجفاف والتصحر وتسلط الأعداء عليها ، شعوب العرب والتي كانت تمثل الخزان الحقيقي للقوة العربية جرى حصارها واعتقالها ومصادرة حقوقها لتكون كتلة فاشلة عاجزة عن نصرة غزة ولبنان والسودان ، وها هي تتساقط واحدة تلو الأخرى بلا أي توقف .
في الوقت الذي تم فيه عقد ما سُمي مؤتمر شرم الشيخ ل (وقف اطلاق النار) في غزة ، يُعين المجرم نتانياهو بالأمس مجلسا مصغرا من عتاة المجرمين لإدارة المرحلة الثانية من هذا الاتفاق إمعانا في الإجرام والإذلال لكل العرب والمسلمين ورسالة تأديبية لهم من خلال جعل غزة أمثولة في العذاب والضنك ، لقد اعتقِلت العدالة من هذا العالم ، وأصبحت إسرائيل تتشرب في كل شيء ، أي قرار أمريكي أو سلوك عسكري أو سياسي تطلع به الولايات المتحدة لا يلوح إلا وجه ايتمار او نتانياهو في جوهره ، أية اتفاقيات أو مشاريع أو زيارات أو مبادرات يطلع بها القادة العرب نكتشف في النهاية أنها تخدم النجمة السداسية ، كل الوجوه التي تخرج علينا وكل الوسطاء وكل الداعين إلى السلام وكل المنادين بالتعايش يخيل للمرء في لمحةً بأنهم يرتدون الكيباه ، كل سلام ، كل صفقة ، كل هدنة ، كل حل أو قرض للشرق الأوسط ، كل هذا يعني صفقة لإسرائيل بشكل او بآخر و حماية وتقديس وتبرأة لهذا الكيان من كل جرائمه والموافقة على افعاله وتغطية فظائعه ، كل الأرقام المالية المهولة من الأموال التي لم نكن نتخيل وجودها في ارصدة البنوك ، كل تريلودير وملياردير جديد نسمع عنه ، كل ذلك مسجل في صف الشيطان الإسرائيلي ، أموال فادحة يمكنها أن تخلق عالما كاملا جديدا لا فقر فيه ولا بؤس ولا جوعى ولا مرضى ولا حروب ، لكنها تذهب الى دعم وجود ما يسمى إسرائيل وكأنها أصبحت محراب العالم المعاصر ، لم يعد هذا العالم آمنا بأي شكل ، لم يعد هنالك زمان للسعادة ولا مكان لتأمل الجمال والقصائد والأغاني أو الاستمتاع بأي نوع من متاع الدنيا قبل أن تغفر لنا غزة فلسطين وقبل إيقاف هذا السيل الجارف الذي سيطيح بنا جميعا .
إن الصورة السابقة لهذه الحالة التراجيدية العالمية تدفعنا لإعادة الأسئلة التي كنا نخاف من طرحها ونخاف حتى من تصور نتائجها ؟ هل تفكك حلف المقاومة وأحيط به ؟ وهل تمكنت المستعمرة العبرية من القضاء على هذه الظاهرة في المنطقة العربية والإسلامية ؟ هل حدثت هزيمة المقاتلين في غزة ولبنان واليمن وايران والعراق وسائر المحاور الأخرى الممكنة وتلاشى أمل التحرير ؟ هل نحن في طريق الفناء والإبادة والتلاشي الوجودي ؟ إليكم ما تتفكرون به لتحكموا بأنفسكم وتردون على فريق المرجفين :
1- إن حلف المقاومة ليس حزبا أو تجمعا أو نادٍ لهواة القتال ، وليس معسكرات تدريب تقودها ايران أو روسيا أو كوريا الشمالية أو فنزويلا ، إنه رأي عام ورغبة عامة تعم العالم العربي بأغلبيته يحمل في روحه ومعتقده قوةً مضادة لنهج الاستعمار ومحاولاته لإذلال الإنسان العربي والاستيلاء على أرضه وثرواته وهويته ، إن هذا النهج ليس مرتبطا بالثقافة الإسلامية فقط ، بل هو روحُ مرتبطة بفطرة الإنسان قبل أي اعتبار آخر ، ولذلك قاتلت كل الشعوب المستعبدة وبغض النظر عن معتقدها النمط الاستعماري ، لكن الثقافة الإسلامية جاءت لتصقل وتعزز هذه الفطرة وتمنحها البلورة الحقيقية المعززة بأوامر ربانية بمكافحة ظاهرة الاستعمار، إن محور المقاومة هو كل هذه الشعوب المقهورة المضطهدة التي سُرقت حقوقها في الحياة والمعاش بسبب الاستعمار الأمريكي والغربي الصهيوني لبلادنا .
2-ما يتم ترويجه على أنه هزيمة كاملة للمقاومة في غزة ولبنان وايران ليس إلا تعبئة من الرواية الإعلامية العربية المصابة بالجذام الإسرائيلي في كلماتها وأخبارها ، ولو كان صحيحا أن العدو حقق الهزيمة للمقاومة في كل مكان لما كان هنالك من مبرر لتدخل السيد الأمريكي لمؤازرة المستعمرة العبرية وانجادها في اللحظات الفارقة ، ولو كانت هنالك حقائق استسلام أو هزيمة فإن الانعكاسات الميدانية ستكون وبالا علينا جميعا ، لقد أحدث العدو خسائر متعددة في الأرواح والمعدات والأرض في غزة ولبنان وسوريا واليمن وايران من خلال اعتداءات وجرائم ، و لكنه لم ينجح أبدا في كسر الروح المقاتلة لكل هؤلاء أو دفعهم الى اعلان الاستسلام أو الإقرار بالهزيمة بل على العكس فإن ما ينتظر العدو من الجولات القادمة هو المزيد من الإصرار والتمسك بالثوابت وإعادة مناهج الاعداد والمواجهة ، ولا يمكن التغافل عما حققت ضربات المقاومة من ردع وإسقاط لمكانة العدو ومستقبله وتطلعاته .
3- إن المقاومة العربية والإسلامية والعالمية بكل أطيافها وجنسياتها أصبحت شيئا واحدا ضد العقيدة الصهيونية بحقدها وجرائمها وأفعالها ومؤامراتها ، لقد اتحدت كل هذه القوى الصالحة ولا تحتاج أحدا لكي يطلق عليها اسم محور المقاومة ، هذه الروح لا يقتصر فعلها على الأداء العسكري ومواجهة العدو بالبندقية ، فكل كلمة وكل مقاطعة وكل صيحة وكل تظاهرة وكل اعتراض وتضامن ضد الصهيونية وجرائمها وحلفها وشخوصها هو فعل مقاوم لا يمكن هزيمته لا مكانا ولا زمانا مهما فعل الأعداء ، إن كل دعاء وصلاة وشعائر وبحث حقيقي عن الأمان والسلام وكل عمل خير وكل عمل إنساني هو جزء من فعل المقاومة ضد هؤلاء المجرمين .
4-ينسى أهل الأرض الضعفاء أنهم جزء من هذا الخلق ، وينسون أيضا أن قوانين الخالق تسري في خلقه ولا معقب لأمر الله الذي نؤمن به ونتوكل عليه ونخضع لتعاليمه ، ينسى هؤلاء أن قوانين الخالق واضحة ، نافذة ، لا تعيقها اساطيل الولايات المتحدة ولا تحالف كل عصبتها وجيوشها وولاتها ، ينسى هؤلاء أن كيد الشيطان كان ضعيفا وسيظل ضعيفا وينسون أن حزب الله هم الغالبون وان جند الله هم القاهرون ، وينسون أن نهج الإحسان والإعمار والإحياء هو نهج حياتنا ومعاشنا وليس القتل والاعتداء والافناء .
نحن لسنا دعاة حرب ولا دماء ، لكننا لا يمكن أن نقبل أن نعيش كما يريد هؤلاء الحثالة ، فليعربد المستوطنون وليقتلوا وليحتلوا ما يشاؤون ، فليأت المجرم نتانياهو بايتمار وسموتريتش وابن سعير للمرحلة الثانية من الاتفاق وبكل هؤلاء المنحرفين القتلة ، فليأت ترامب وليذل عبيده كما يشاء وليسرق بلادنا على ايديهم كما يشاء ، فليتأمروا على ايران وعلى لبنان وعلى بلاد عدنان ، فليأتوا بكل ما اوتوا من قوة ومن رباط ومن ذكاء صناعي واسلحة جديدة ، فالإنسان في بلادنا يتنفس الحرية كما يتنفش الهواء ، وتتأصل المقاومة في وعيه وأحلامه وحياته مهما حاولتم إلهاءه وفتنته وتضليله ، فالمقاومة هي اساس حياة هذه الشعوب والروح التي نتنفس منها أكسجين الكرامة .
مساء الأمس مع سهرةٍ شاردة كنت أحضر حفلة زفاف لشاب من شباب فلسطين الذين طوتهم الأيام ، في ختام الحفل تحلق الشباب حول العريس الشاب وراحوا يرددون العبارة الرهيبة التي جعلتنا نحلق في فضاء الحرية ولو للحظات : حط السيف حد السيف واحنا رجال محمد ضيف !
نعم أيهاد السادة ، هذه الرسالة تختصر كل شيء ، وتبلغكم رسالة الأجيال القادمة بكل بساطة ، رحل الضيف ورحل السنوار ورحل السيد وكل الأبطال المتسابقين الى شرف الشهادة ، لكن رجالهم لا يزالون يصعدون من كل شيء ، من كل زمان وكل مكان ، المقاومة لا تنتهي ، والحياة تغلب الموت ، والحرية لا تقبل الاستعباد مهمــا طال الزمان !