خطة ترامب: وصاية دولية بوجه جديد للاحتلال.. إنقاذ لنتنياهو وشرعنة لتصفية المقاومة

الحقيقة ـ جميل الحاج

في كل مرة يقترب الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي من لحظة انفجار كبرى، تسارع واشنطن إلى طرح “خطة إنقاذ”، لا لإنقاذ الفلسطينيين من الإبادة أو الاحتلال، بل لإنقاذ مشروع السيطرة نفسه. هكذا جاءت خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن غزة: ليست خطة سلام، ولا حتى مبادرة لإعادة الإعمار، بل إعادة إنتاج للانتداب بوجوه جديدة وخطاب أكثر نعومة.

فالخطة تهدف إلى إعادة صياغة الاحتلال بثوب أكثر “مدنية”، عبر إدارة انتقالية دولية تحت مظلة أميركية وبغطاء عربي، ما يحوّل غزة من سجن محاصر إلى سجن يُدار دولياً، مع إبقاء الاحتلال سيد الموقف الفعلي.

خلف الكواليس: إنقاذ نتنياهو من الغرق

لا يمكن فصل الخطة عن أزمة بنيامين نتنياهو الداخلية. الرجل يواجه محاكم فساد وضغوط عائلات الأسرى واحتقاناً قد يفجّر ائتلافه الحكومي في أي لحظة. هنا قدّم ترامب خشبة خلاص: اتفاق يُسوَّق كـ”نصر سياسي”، يمنح نتنياهو وقتاً إضافياً للهروب من السجن ومن انهيار حكمه.

لكن إنقاذ نتنياهو ليس إلا جزءاً من المشهد. فالخطة تخدم أيضاً واشنطن التي تسعى لتثبيت وصايتها على غزة وإعادة إدارتها بما يخدم أمن “إسرائيل”، تحت شعارات التنمية والتأهيل الأمني.

رفض يميني إسرائيلي وصورة هشة

رغم ما تحمله الخطة من ضمانات لـ (إسرائيل)، إلا أن أقصى اليمين الإسرائيلي رفضها. وزير المالية بتسلئيل سموتريتش وصفها بأنها “فشل تاريخي يعيد إنتاج أوسلو”، متمنياً أن ترفضها حماس لتفشل. هذا الانقسام يوضح هشاشة المشهد: فالحل “الواقعي” الذي تروج له واشنطن قد لا يرضي الفلسطينيين ولا الإسرائيليين.

الخطة في جوهرها: غزة تحت وصاية دولية

عند تفكيك بنود الخطة يتضح حجم الخديعة:

60% من القطاع يبقى تحت سيطرة إسرائيلية مفتوحة المدة.

لا جدول زمني ولا ضمانات للانسحاب.

نزع سلاح المقاومة بالكامل شرط مسبق.

إدارة انتقالية دولية بقيادة أمريكية، مع أسماء مثل توني بلير.

ترتيبات أمنية دولية لتدريب “شرطة فلسطينية جديدة”.

إنها صياغة لانتداب مقنّع، بواجهة فلسطينية وقرار خارجي، يشرعن الاحتلال ويُعيد إنتاج السيطرة.

البعد الاقتصادي: إعمار مشروط بلا سيادة

تتضمن الخطة وعوداً بإعمار ومشاريع اقتصادية، لكن على الطريقة النيوليبرالية: استثمارات مشروطة، مناطق اقتصادية ملحقة بالأسواق الإسرائيلية، وتدفق أموال لضمان “استقرار أمني” يخدم الاحتلال.

إنها نسخة جديدة من “السلام الاقتصادي” الذي طالما روج له نتنياهو: إعاشة بلا حرية، بنية تحتية بلا سيادة. ولا تتضمن أي التزام بوقف الحرب أو رفع الحصار أو الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين.

احتلال مقنّع تحت شعار “السلام”

خطة ترامب ليست سوى احتلال مقنّع، وصاية أمريكية دولية، نزع للشرعية، محو للهوية الفلسطينية، وتصفية للمقاومة. إنها ليست معركة مع حماس وحدها، بل مع الشعب الفلسطيني بأسره.

فالخطة تُعامل الفلسطينيين كـ”قُصّر سياسيين”، يحتاجون وصاية دولية على حياتهم وقرارهم، في حين أن جوهر الصراع هو الحق في الأرض والسيادة والحرية.

أسباب الرفض الفلسطيني والعربي

أبرز أسباب رفض الخطة:

اختزال القضية في ملف إنساني إغاثي وإقصاء بعدها السياسي.

تغييب التمثيل الشرعي الفلسطيني وتهميش منظمة التحرير والفصائل.

استغلال الكارثة الإنسانية في غزة لفرض حلول سياسية منقوصة.

استخدام الانقسام الفلسطيني لتفكيك المقاومة وشطب المشروع الوطني.

وقد كشفت التقارير أن نتنياهو أعاد صياغة البنود ليفرض شروطاً إسرائيلية صريحة: ربط الانسحاب بنزع سلاح حماس، إبقاء قوات إسرائيلية داخل القطاع، ومنح تل أبيب حق الفيتو على أي خطوة.

الغطاء العربي: بين الترحيب العلني والرفض الخفي

رغم الترحيب العلني من بعض وزراء خارجية مصر والأردن والسعودية وقطر والإمارات وتركيا وباكستان وإندونيسيا، إلا أن كواليس المشهد كشفت عن امتعاض عربي وإسلامي واسع.

مصر وقطر وتركيا عبّرت عن رفضها للتعديلات التي فرضها نتنياهو، فيما حاولت الدوحة ثني البيت الأبيض عن نشر النسخة المعدلة دون جدوى. النتيجة: موقف عربي ملتبس يجمع بين الترحيب الدبلوماسي والاعتراض الصامت.

حماس بين “الرفض” و”المناورة”

أعلنت حركة الجهاد الإسلامي رفضاً صريحاً، بينما بدت حماس أكثر حذراً. موقفها يتلخص في قاعدة “عدم الإعاقة”: لن تكون حجر عثرة أمام وقف الإبادة، لكنها في الوقت نفسه لن تعلن قبولاً صريحاً بخطة تنتقص من السيادة.

هذا الموقف يعكس مأزقاً:

الرفض الصريح يمنح واشنطن ذريعة لتصعيد الحرب.

القبول المشروط يضعف شرعية المقاومة.

المناورة تسمح بالموازنة بين وقف الحرب والحفاظ على المشروع الوطني.

الخديعة الأخلاقية: من الإبادة إلى “السلام”

الخطة تحاول تبييض صفحة الإبادة بخطاب إنساني. الإعلام الغربي يصور “إسرائيل” ضحية “الإرهاب”، ويقدم الفلسطينيين كمخرّبين، ثم تأتي واشنطن لتقول: “نمنحكم فرصة حياة جديدة”. إنها الخدعة نفسها منذ أوسلو: اصنع كارثة ثم قدم وصاية دولية كخلاص.

المستقبل: انتداب جديد أم انتفاضة قادمة؟

إذا مضت الخطة كما هي، فسنشهد ولادة “انتداب دولي جديد” على غزة. لكن التاريخ يثبت أن الفلسطينيين لم يقبلوا بانتداب بريطاني ولا بأوسلو، ولن يقبلوا اليوم بوصاية جديدة.

الشعب الذي صمد عقوداً تحت الحصار سيواصل المقاومة، وربما يشهد العالم انتفاضة مغايرة تُعيد رسم المعادلة.

خطة للهزيمة لا للسلام

خطة ترامب ليست خطة سلام، بل خطة هزيمة جماعية مكتوبة بأقلام إسرائيلية ونُطقت بلسان أميركي. العرب الذين وفروا غطاءً دبلوماسياً للخطة يدركون ذلك، لكنهم يوازنون بين ضغوط واشنطن ومخاوفهم من انفجار إقليمي. أما المقاومة، فتدرك الخطر وتستعد للمواجهة بالمناورة أو بالتصعيد.

وفي النهاية، لن يُحسم مستقبل غزة في مكاتب البيت الأبيض أو الأمم المتحدة، بل على الأرض، حيث يرفض الفلسطينيون أن يكون دمهم مجرد ورقة في مشروع وصاية أمريكية جديدة.

قد يعجبك ايضا